بعد أن تعرّض أرمين شيبين (Armin Scheben) للدغة حشرة الخفافيش في أثناء مشاركته في أحد المؤتمرات، أصبحت لديه رغبة حقيقية في دراسة هذه الكائنات وفهمها بصورة أعمق. تُعد هذه الحشرة التي تمص الدماء أحد الكائنات الطفيلية المسببة للأمراض، التي تلتصق بالخفافيش، وعلى الرغم من ذلك، فإن الخفافيش أقل عرضة للإصابة بالأمراض التي تصيب البشر.
الأجهزة المناعية عند الخفافيش
تتطور أجهزة المناعة لدى الثدييات بسرعة نظراً للتحديات التي تواجهها هذه الأنواع دائماً عند تعرضها لمسببات الأمراض في بيئتها. يقول زميل ما بعد الدكتوراة في علم الجينوم السكاني في مختبر كولد سبرينغ هاربور (Cold Spring Harbor Laboratory)، أرمين شيبين (الذي تعافى من اللدغة فيما بعد): "عليك الاستعداد لمواجهة الأعداء الجدد الذين يحاولون نقل العدوى إليك". تتمتع الخفافيش بتكيفات جينية فريدة من نوعها، تمنحها القدرة على مقاومة العدوى بفعالية كبيرة، ما يميزها عن الثدييات.
في دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 20 سبتمبر/أيلول في مجلة بيولوجيا الجينوم والتطور (Genome Biology and Evolution)، حدد شيبين وفريقه الجينات التي أسهمت في تطور جهاز المناعة لدى الخفافيش وقدرتها الفريدة على تجنب الفيروسات القاتلة وحتى السرطان. إن فهم كيفية نجاة الخفافيش من الأمراض يمكن أن يسهم في ابتكار علاجات مناعية جديدة للبشر وربما يساعد في منع حدوث جائحة أخرى.
اقرأ أيضاً: 6 حقائق غريبة لا تعرفها عن الفراشات
الحمض النووي للخفافيش
حلل الباحثون الحمض النووي لـ 15 نوعاً مختلفاً من الخفافيش للحصول على صورة أوضح حول كيفية تطور جينات هذه الخفافيش على مر الزمن. عملوا أيضاً على تحليل تسلسل جينومات نوعين من الخفافيش بصورة كاملة، وهما خفاش الفاكهة الجامايكي (Jamaican fruit bat)، وخفاش أميركا الوسطى ذو الشارب (Mesoamerican mustached bat)، أما بالنسبة للأنواع الأخرى، فاستخدموا مجموعات بيانات موجودة مسبّقاً لجمع المعلومات الجينية المتعلقة بها.
ثم قارنوا المعلومات الوراثية للخفافيش بالمعلومات الوراثية للبشر والفئران والثدييات الأخرى المعرضة للإصابة بالسرطان، وركزوا اهتمامهم على التسلسلات التي ترمز إلى البروتينات المسؤولة عن الإصابة بالأمراض أو الوقاية منها. عمل الباحثون في البداية على ترتيب الجينات المتماثلة أو المشتركة بين الأنواع المختلفة، التي تكون موروثة من سلف تطوري مشترك. يوضح شيبين أن مقارنة الجينات المشتركة بين الأنواع المختلفة تشبه مقارنة التفاح بالتفاح.
اقرأ أيضاً: هل تنام الحيوانات وتحلم مثل البشر؟ العلم يُجيب
لماذا لا تُصاب الخفافيش بالسرطان؟
قدّم الباحثون فرضيتين مختلفتين عند دراسة كل جين متماثل: الفرضية الأولى تقترح فقدان هذا الجين تماماً في الخفافيش، أما الفرضية الثانية فتقترح حدوث تغيرات في التركيبة الوراثية لهذا الجين. إذا فقدت الخفافيش هذا الجين تماماً، فإن ذلك يشير إلى أن غياب هذا الجين له أهمية كبيرة في مكافحة الأمراض. لكن إذا بقي الجين موجوداً في الخفافيش مع حدوث تغيرات طفيفة في تسلسل الحمض النووي، ولم يتغير هذا التسلسل في الكائنات الأخرى، فإن ذلك يمكن أن يشير إلى أن هذا التغير في وظيفة الجين يسهم بطريقة ما في الحفاظ على صحة الخفافيش.
في النهاية، كان أكثر التغيرات الملحوظة التي اكتشفها الفريق يتمثل في جينات الإنترفيرون (IFN) من النوع الأول، التي تُعد مهمة للتحكم في الاستجابات الالتهابية للعدوى. لاحظ الفريق تغيراً في عدد جينات الإنترفيرون- ألفا (IFN-α) والإنترفيرون- أوميغا (IFN-ω) المضادة للفيروسات. على سبيل المثال، يبدو أن 3 أنواع من الخفافيش فقدت جينات الإنترفيرون- ألفا جميعها مع زيادة عدد جينات الإنترفيرون- أوميغا.
اقرأ أيضاً: هل ظاهرة التوائم الحقيقية شائعة بين الحيوانات؟
فقدان نوع من الجينات قد يكون مسؤولاً عن حماية الخفافيش من الإصابة بالسرطان
وفقاً لشيبين، كانت أكثر النتائج إثارة للدهشة هي ملاحظة فقدان جينات الإنترفيرون- ألفا وزيادة عدد جينات الإنترفيرون- أوميغا، التي لم يبلغ عنها في الدراسات السابقة. تشير النتائج إلى أن جينات الإنترفيرون- أوميغا الجديدة وجينات الإنترفيرون- ألفا المفقودة تؤدي دوراً مهماً في مقاومة العدوى الفيروسية ومنع الاستجابات الالتهابية المفرطة، وهي ميزة جعلت الالتهابات سلاحاً ذا حدين لدى البشر.
على الرغم من أن النتائج ساعدت علماء الوراثة في فهم كيفية تطوير الخفافيش لقدرتها الفريدة على مقاومة السرطان والفيروسات، فإنها لا تقدم صورة كاملة حول هذه العملية. يقول الأستاذ في مركز الأمراض المعدية التي تحملها النواقل (Center of Vector-Borne Infectious Diseases) في جامعة ولاية كولورادو، الذي لم يشارك في الدراسة، توني شاونتز (Tony Schountz): "تركّز الدراسة فقط على الجينات الوراثية للمناعة الفطرية (الاستجابة المناعية الفورية للخلايا المصابة)".
لا تتضمن الدراسة أيضاً معلومات حول المناعة التكيفية للخفافيش، التي تتكون من الأجسام المضادة واستجابات الخلايا التائية التي يستخدمها العديد من الثدييات لمحاربة الأمراض. يقول شاونتز: "تختلف المناعة الفطرية عن المناعة التكيفية، لكن تكمل إحداهما الأخرى لتوفير حماية شاملة ضد الأمراض، يركز معظم الأبحاث حتى الآن على المناعة الفطرية للخفافيش، ويرجع ذلك أساساً إلى صعوبة دراسة المناعة التكيفية التي تتطلب وجود حيوانات حية، وهو أمر لا يتوافر لدى العديد من الفرق البحثية، كما أنها أكثر تعقيداً من دراسة المناعة الفطرية".
اقرأ أيضاً: 10 حيوانات هجينة لم ترها من قبل
تطوير علاجات وراثية للبشر
حتى في ظل عدم توافر مجموعة كاملة من المعلومات، فإن فهم التغيرات في نظام المناعة الفطرية للخفافيش يمكن أن يساعد العلماء في تطوير علاجات وراثية للبشر بحيث تقلل من احتمالية الإصابة بأمراض معينة. يمكن أن تساعدنا دراسة هذه التغيرات في فهم العوامل الوراثية التي تؤثر في فترة حياة الخفافيش التي تتراوح بين 20 إلى 30 عاماً، بالإضافة إلى معرفة طريقة تكيف أجسام الخفافيش وتفاعلها مع الأطعمة الغنية بالسكر وعملية هضمها واستقلابها دون ظهور العواقب السلبية التي نراها في البشر، الذين يعانون مرض السكري، عند تناول هذه الأطعمة.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن الاستفادة من تجربة حماية هذا النوع من الأسماك المهددة بالانقراض؟
على الرغم من السمعة السيئة التي لحقت بالخفافيش جرّاء دورها المزعوم في نشر فيروس سارس كوفيد، يأمل شيبين أن تساعد هذه النتائج الجديدة الباحثين في فهم كيفية إصابة هذه الحيوانات بهذه الفيروسات والطفيليات دون ظهور أعراض خطيرة تؤثر على صحتها بصورة كبيرة كما يحدث لدى البشر أو الكائنات الأخرى. يقول شيبين: "من الممكن استخدام هذه المعلومات في المستقبل لوقاية الجنس البشري من تطور أعراض خطيرة عند الإصابة بالعدوى، لا يوجد أدنى شك في أن دراسة الخفافيش يمكن أن تكون مفيدة لنا في الوقاية من حدوث وباء جديد".