كنت أحب أن تقوم والدتي بتنظيف أذني عندما كنت طفلاً. كانت طقوساً معتادة: أضع رأسي في حجرها بينما كانت تسلط ضوء مصباح يدوي داخل أذني الصغيرة. وبحذر شديد، تكشط شمع الأذن اللزج وتزيله من أذني بواسطة طرف عود معقوف من خشب الخيزران مزيّن من طرفه الآخر بلعبة لطيفة صغيرة، ويُدعى هذا العود "ميميكاكي" باليايانية.
لآلاف السنين، كان تنظيف الأذن في العديد من الثقافات الآسيوية عملاً ينطوي على الكثير من العاطفة. لكن هذا الولع الشديد بتخليص آذاننا من شمع الأذن كان ظاهرة منتشرة في كل مكان. فقد ابتكر الرومان القدماء ملاقط أذن متخصصة لإزالته، وصنع الأوروبيون في العصور الوسطى أدوات معدنية أشبه بالملاعق لهذا الغرض، وقام الفايكنغ بتنظيف آذانهم بعيدان من الذهب.
يقول طبيب الأنف والأذن والحنجرة للأطفال في جامعة واشنطن ومستشفى سياتل للأطفال، هنري أوي: «يبدو أن معظم الثقافات كانت مولعة بإزالة شمع الأذن».
بغض النظر عن كل ما ابتكرناه في سبيل إزالته، يغطي شمع الأذن القناة الأذنية لسبب وجيه، ومن الأفضل عدم إزالته كما يقول هنري أوي، وحتى لو كان يعلق على سماعات الأذن أو يتسبب باتساخ الوسادة، فإنه مادة مهمة وضرورية. وسواء كان قوامها قشرياً أو لزجاً، يجب أن تقدر أهمية هذه المادة التي يفرزها الجسم- ومحتوياتها الفريدة- للحفاظ على صحة آذاننا ونظافتها.
اقرأ أيضاً: إليك بعض المواد الطبيعية من المطبخ لعلاج الشعر المطاطي
ما هو شمع الأذن؟
شمع الأذن، أو الصملاخ (cerumen) كما يسميه العلماء، هو مزيج من ثلاثة مكونات رئيسية: الدهون والعرق وخلايا الجلد الميتة. وتختلف نسب هذه المكونات قليلاً من شخص لآخر، كما يقول هنري.
ويضيف موضحاً: «ينمو جلد الأذن باستمرار. عندما يتم طرح خلايا الجلد الميتة، فإنها تنتقل من الأذن الداخلية إلى الأذن الخارجية من خلال مساعدة مكونين من شمع الأذن: الدهون والعرق». يتم إفراز العرق- والذي يمكن أن يسهم برائحة شمع الأذن- من أعضاء معينة تُدعى الغدد المفترزة العرقية (apocrine glands)، والتي توجد أيضاً في الفخذ والإبطين وغيرها من مناطق الجسم.
وتأتي الإفرازات الدهنية من الغدد الدهنية المحيطة ببصيلات الشعر الموجودة في قناة الأذن الخارجية. وتؤثر كمية الدهون التي تنتجها غددك في لزوجة وملمس التراكمات الذهبية اللون في الأذن كما تقول أخصائية طب الأنف والأذن والحنجرة والأستاذة السريرية المشاركة في مستشفى جامعة روتجرز بنيو جيرسي، يو لان ماري ينغ.
اقرأ أيضاً: دع التكاليف الباهظة جانباً: أسهل روتين للعناية بالبشرة
وتضيف ينغ: «يختلف محتوى شمع الأذن من الدهون من شخصٍ لآخر، وبالتالي تتنوع أشكاله وأنواعه. قد تكون لدى البعض غدد دهنية أكثر من غيرهم، أو قد تكون إفرازات غددهم الدهنية أكثر غزارةً، ما قد يفسر هذا التنوع الكبير في قوام شمع الأذن، من الجاف جداً والقشري إلى اللزج والسميك جداً».
ما دور العامل الجيني؟
يتراوح قوام شمع الأذن من القشري إلى الغروي، ولكن هناك نوعين منه فقط بالنسبة للجميع: الرطب والجاف. يميل شمع الأذن الجاف إلى اكتساب تدرجات فاتحة من اللون الأصفر أو حتى الرمادي، بينما يكتسب الشمع الرطب غالباً لوناً أغمقَ ذهبياً أو بنياً. وقد تكون لشمع الأذن الرطب رائحة أقوى عموماً.
هذه الخصائص المميزة لشمع الأذن متأصلة في جيناتك. يشيع شمع الأذن الرطب في السكان الذين ينحدرون من أصول أوروبية وإفريقية، بينما يشيع شمع الأذن الجاف أكثر بين شعوب شرق آسيا. هذا يجعلني حالة شاذة. لقد عانيت دائماً من شمع الأذن اللزج الرطب الذي بدا أنه يلطخ كل شيء، سماعات الأذن وأغطية الوسادات والقبعات الصوفية. لقد حددت دراسة أجريت عام 2006، ونُشرت في مجلة "نيتشر جينيتكس" (Nature Genetics)، أن الجين "أيه بي سي سي 11" (ABCC11) هو المسؤول عن نوع شمع الأذن لدى البشر، ووجدت هذه الدراسة أيضاً أن شمع الأذن الرطب كان سمة أكثر انتشاراً من شمع الأذن الجاف.
اقرأ أيضاً: كم عدد مرّات الاستحمام التي تحتاجها لتحافظ على نظافتك؟
على الرغم من أن العلماء حاولوا تحديد أي من أنواع شمع الأذن يتمتع بفوائد صحية أو تطورية فائقة، يقول هنري إنه غير مقتنع تماماً بنتائج البحث الحالي. ويضيف أنه على الرغم من أن البيئة قد تؤثر على نوع شمع الأذن، فإن دراسة أجريت عام 2011 أظهرت بعض الارتباطات بين شمع الأذن والمناخ؛ حيث أشارت إلى أن النوع الرطب قد يكون أكثر شيوعاً في المناطق الأكثر دفئاً، بينما يشيع النوع الجاف في المناخات الباردة أكثر.
هل يتغير شمع الأذن؟
ليس تماماً. قد يبدو أن الأطفال ينتجون كمية أكبر من شمع الأذن، ولكن ذلك يعود لصغر قناتهم الأذنية. يقول أوي: «تكفي كمية صغيرة من شمع الأذن لملء قناة الأذن عند الأطفال. فنظراً لصغرها، من الصعب لشمع الأذن الخروج منها من تلقاء نفسه».
وتوضح ينغ أنه من الممكن أن تحدث تغيرات أكثر دقة في شمع الأذن مع التقدم في السن، حيث قد تقل إنتاجية الغدد الدهنية والعرقية، وتصبح البشرة أكثر جفافاً بشكلٍ عام، ما قد يتسبب بجفاف شمع الأذن وتقشره.
تشترك الأذنان والأنف والحنجرة في الحيز المكاني نفسه، أي أن الإصابة بأي فيروس أو بكتيريا يمكن أن تؤثر عليها جميعاً في الوقت نفسه. ويعتقد البعض أن الأذنين تنتجان كمية أكبر من شمع الأذن عند المرض، ولكن لا يوجد سوى القليل من الأدلة التي تدعم هذا الاعتقاد. وتقول ينغ موضحةً إن الإصابة بالزكام أو الإنفلونزا قد تجعلك تشعر وكأن أذنيك مسدودتان، ولكن قد يرجع ذلك إلى تراكم السوائل الناجم عن تورم الأنابيب التي تصل بين الأذنين والحلق: «عندما يحتقن الأنف بسبب التهاب اللوزتين أو الحلق، فقد تمتلئ هذه الأنابيب بالسوائل، وبالتالي تشعر وكأن أذنيك مسدودتان».
لا تغير معظم الالتهابات شمع الأذن، ولكن هناك حالات أكثر خطورة، مثل تمزق طبلة الأذن أو الإصابة بالتهاب الأذن الخارجية (أذن السبّاح) أو إصابات الرأس الخطرة، يمكن أن تغيّر قوام شمع الأذن إلى صديد مائع يُشار إليه أحياناً بـ "سيلان الأذن"، ويقول أوي إن مفرزات الأذن الوسطى الناجمة عن تلك الحالات يمكن أن تختلط بشمع الأذن.
اقرأ أيضاً: دليل مبسّط لتصبح رائحتك منعشةً وجميلةً طوال الوقت
قد يُضطر أطباء الأذن والأنف والحنجرة إلى أخذ عينة من خليط المفرزات والشمع لزراعتها لمعرفة ما إذا كانت تحتوي على فطريات أو بكتيريا، ما يساعد في تحديد العلاجات المناسبة من المضادات الحيوية أو مضادات الفطريات. لقد درست بعض المجموعات البحثية إمكانية استخدام شمع الأذن كأداة في علم السموم، للكشف مثلاً عن تعاطي المخدرات، بالطريقة نفسها التي يتم بها تحليل عينات الشعر أو البول، بينما درس آخرون إمكانية استخدام شمع الأذن لقياس مستويات الهرمونات مثل الكورتيزول.
ما أهمية شمع الأذن؟
بغض النظر عن قوامه أو نوعه، يعمل شمع الأذن كخط دفاعي في قناة الأذن الخارجية. لقد أثبتت الدراسات أن هذه المادة تحتوي على بروتيناتٍ مضادة للبكتيريا والفطريات يمكنها الوقاية من الالتهابات، بالإضافة إلى أنها توفر وسطاً حامضياً بعض الشيء تنفر منه الميكروبات الضارة. والأهم من ذلك أن هذه المادة اللزجة تحافظ على رطوبة الأذن من الداخل ونظافتها.
تقول ينغ: «إنها بمثابة مادة تشحيم واقية طبيعية. انظر إلى باقي مناطق الجلد على الجسم، يجب أن تحتوي أيضاً على غدد تفرز مواد دهنية تحافظ على بشرتك وتقيها من الجفاف الشديد».
وكذلك الحال بالنسبة للأذن، فبدون هذه المادة الدهنية، سيتهيج جلد الأذن وستشعر بالحاجة إلى الحكّ، ما قد يؤدي إلى تهيّج أو خدش الجلد الرقيق الذي يبطن قناة الأذن. يمكن أن تسمح أي ثغرة في هذا الحاجز الطبيعي بنفاذ البكتيريا إلى داخل الجسم أو الإصابة بالتهاب الأذن الخارجية أو غيرها من الالتهابات، وقد يحدث ما هو أسوأ من ذلك إذا ما حاولت الوصول عميقاً داخل الأذن لتنظيفها، إذ قد ينتهي بك الأمر إلى ثقب غشاء الطبل. بالإضافة إلى ذلك، يساعد شمع الأذن أيضاً في التقاط الغبار والحطام وأي شيء يمكن أن يدخل في القناة الأذنية.
اقرأ أيضاً: في مواجهة حرارة الصيف: إليك أفضل الطرق للعناية بالشعر
وعلى الرغم من كل ما سبق وذكرناه حول ضرورة عدم إزالة شمع الأذن، قد يُضطر بعض الأطباء إلى إزالته في بعض الحالات. يقول أوي إن تراكم شمع الأذن بكميات كبيرة قد يؤثر على السمع، وقد يتسبب مثلاً بطنين الأذن الذي يتمثل في سماع رنين مستمر. ويضيف أوي: «إذا احتجنا إلى رؤية طبلة الأذن ولم يكن بمقدورنا ذلك جراء امتلاء قناة الأذن بالشمع، سنُضطر لاستخدام أدوات لإزالته بحذر شديد، ولكن لا حاجة لذلك في كثير من الحالات في الواقع».
إن وضع شيء ما في أذنك بنفسك، لا سيما العيدان القطنية، يؤدي إلى دفع كمية أكبر من شمع الأذن أعمق داخل الأذن مقارنة بما تخرجه منها، ما يؤدي إلى تراكمات أسوأ. بدلاً من العيدان القطنية، يمكنك استخدام الزيوت المعدنية أو المحاليل الملحية المتاحة دون وصفة طبية لتليين شمع الأذن وسيزول من تلقاء نفسه كما يقول أوي. إذا لم ينجح ذلك، استشر طبيبك.
تقول ينغ أخيراً: «إذا كانت أذناك ممتلئتان فعلاً بالشمع، فلا تحاول استخدام العيدان القطنية مطلقاً، يجب ألا تفعل أي شيء. عليك فقط تحديد موعد مع الطبيب لتحديد أفضل طريقة لإزالته».