ملخص: يعتقد كثيرون أن الحياة في الريف، حيث الهواء النقي والمساحات الخضراء، توفّر العوامل الكافية للعيش بصحة جيدة مقارنة بالحياة في المدن. لكن الدراسات المتلاحقة وجدت ارتفاعاً في معدل الإصابة بالأمراض بين سكان الريف، وارتفاعاً في معدلات الوفيات، وانخفاض متوسط العمر المتوقع، وارتفاع معدلات الآلام المزمنة. ويعود السبب في ذلك إلى ضعف إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية وخدمات الصحة العامة، والوضع الاجتماعي والاقتصادي، والسلوكيات المرتبطة بالصحة، والأمراض المزمنة، فضلاً عن المسافات الجغرافية، ونقص الأطباء ومقدمي الرعاية الصحية. بالإضافة إلى الصحة الجسدية، يعاني سكان الريف أمراض الصحة النفسية بنسبة أكبر من سكان المدن، على الرغم من أن بعض الدراسات أثبتت عكس ذلك.
يتنفسون هواءً نقيّاً، ويعيشون في أحضان الطبيعة، ويتناولون طعاماً طازجاً. كل ذلك يدفعنا للاعتقاد بأن سكان الريف يعيشون حياة صحية أفضل من سكان المدن، لكن للعلم رأياً آخر، فقد وجدت الدراسات المتلاحقة أن صحة سكان المدن ومتوسط أعمارهم أفضل من سكان الريف، وأرجعت ذلك لأسباب عديدة.
مَن يعيش حياة صحية أفضل: سكان المدن أمْ الريف؟
تتمتّع المناطق الريفية بالهواء النقي، والمساحات الخضراء الشاسعة، بالإضافة إلى أن سكانها يحصلون على خضرواتهم طازجة، لذلك نعتقد أن سكان الريف يتمتّعون بحياة صحية أفضل. لكن العديد من الدراسات وجدت أن صحة سكان المدن أفضل، في معظم أنحاء العالم، ومن بينها بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الصحة الجسدية
في إحدى هذه الدراسات المنشورة في دورية الصحة الريفية، وجد باحثون من جامعة جنوب كاليفورنيا أن الرجال في المدن يعيشون حياة صحية أفضل مقارنة بالرجال في الريف، والذين يعانون ارتفاع معدلات التدخين واستهلاك الكحول والسمنة وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري، ولديهم متوسط عمر أقصر مقارنة بالرجال الذين يعيشون في المدن. أمّا بالنسبة للنساء، فإن الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية في متوسط العمر المتوقع وجودة الصحة أصغر بكثير وتنمو ببطء أكبر بمرور الوقت.
وبالمثل، وجدت دراسة أجراها باحثون من كلية الصحة الريفية والشمالية بجامعة لورينتيان الكندية، أن الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الريفية في كندا لديهم معدلات وفيات أعلى ومتوسط عمر متوقع أقصر من أولئك الذين يعيشون في المدن، ومن أسباب هذه الوفيات حوادث السيارات والمخاطر المهنية مثل الإصابات والتسمم.
بالإضافة إلى ذلك، تزداد نسبة الإعاقة بين سكان الريف مقارنة بسكان المدن، كما أنهم أقل التزاماً بممارسة الرياضة يومياً. وفي الريف أيضاً، نسبة البالغين الذين يخضعون للفحص للكشف عن الإيدز وأنواع مختلفة من السرطان، بما في ذلك سرطان البروستاتا والثدي والقولون والجلد، أقل مقارنة بأولئك المقيمين في المدن.
من ناحية أخرى، انخفضت معدلات الوفيات بالسرطان لدى سكان الريف، وانخفضت نسبة إصابتهم بأمراض الجهاز التنفسي، علاوة على أنهم يعانون ضغوطاً نفسية أقل.
اقرأ أيضاً: كيف يساعد تخطيط المدن على الحد من السمنة؟
ما هو السبب؟
يعود هذا الاختلاف إلى عدة عوامل، منها العوامل الجغرافية، إذ إنه كلما كان المجتمع أكثر بُعداً عن مراكز المدن، كان أصغر، وكانت حالة السكان الصحية أسوأ. بالإضافة إلى ارتفاع الطلب على الرعاية الصحية في المناطق الريفية التي تعاني نقص مقدمي الرعاية الصحية حتى في البلدان التي يعيش فيها غالبية السكان في المناطق الريفية، خاصة مع انتقال السكان الأصغر سناً إلى المدن للحصول على أجور أعلى في العمل، وتوفر الفرص التعليمية. كما أن سكان الريف يعملون في وظائف أكثر خطورة في قطاع الزراعة والتعدين وصيد الأسماك وقطع الأشجار.
يُعدُّ التعليم عاملاً مهماً في تحديد جودة الصحة أيضاً، فالأشخاص أصحاب المستويات التعليمية المنخفضة هم أكثر عرضة للوفاة لأسباب مثل جرعة زائدة من المخدرات أو الانتحار، مع الإشارة إلى عوامل جغرافية مهمة خارج التعليم تسهم في الاختلافات في متوسط العمر المتوقع الصحي.
من الأسباب أيضاً صعوبة حصول سكان الريف على تغطية تأمين صحي لكون دخلهم أقل من نظرائهم في المدن، وتتمتّع المناطق الريفية بمعدلات فقر أعلى بشكل عام، كما أن متوسط إجمالي نفقات الرعاية الصحية لسكان الريف أعلى قليلاً من تلك التي ينفقها سكان المدن. ويدفع سكان الريف نسبة أكبر من تكاليف الرعاية الصحية من أموالهم الخاصة مقارنة بسكان المدن.
في المقابل، إن الشعور القوي بالانتماء إلى المجتمع والارتباط بالمناظر الطبيعية يمكن أن يسهم في الصحة الإيجابية بين سكان الريف، ويساعدهم على التخلص من التوتر، كما أن التماسك الاجتماعي في المناطق الريفية يمكّن السكان من الاعتماد على الأصدقاء والجيران للمساعدة على حالة الإصابة أو المرض.
اقرأ أيضاً: نصائح لتحافظ على صحتك في الخريف وتتفادى الأمراض الموسمية
الصحة النفسية
وبالتركيز على الصحة النفسية، كانت نتائج الدراسات متباينة:
بدايةً، من المعروف أن المساحات الخضراء تعزز الصحة، وخاصة الصحة النفسية، لذا يُعتقد أن سكان الريف أكثر صحة. لكن وجدت دراسة أجراها باحثون من جامعتي وارويك وشيفيلد في إنجلترا، ونُشرت في دورية بي إم سي للصحة العامة، أن اتساع المساحات الخضراء المحلية لا يرتبط بتعزيز الصحة النفسية؛ أي أن وجودها في مكان قريب لا يعني بالضرورة أن الناس سوف يتفاعلون معها، وبالتالي فإن العيش في أحضان الطبيعة في الريف لا يعني الحصول على الفائدة منها.
أظهرت دراسة أخرى أجريت في انجلترا أيضاً ونُشرت في دورية نيتشر، أن العيش بالقرب من المساحات الخضراء لم يحسّن نتائج الصحة النفسية، لكن كلما زاد تكرار زيارة الشخص للمساحات الخضراء، كانت صحته النفسية أفضل. وبناءً على ذلك، قد تكون الحياة في المدن بجودة الحياة الريفية نفسها عندما يتعلق الأمر بالفوائد الصحية النفسية التي توفّرها المساحات الخضراء.
يسبب ارتفاع مستويات تلوث الهواء أيضاً تدهور الصحة بشكلٍ عام، بالإضافة إلى زيادة خطر الإصابة بالقلق والاكتئاب مقارنة بمَن يتنفسون هواءً أنظف، ويتمتّعون بمستويات أقل من الرضا عن الحياة. وبما أن مستوى تلوث الهواء في المدن يزيد على مستويات تلوث الهواء في المناطق الريفية بضعفين إلى أربعة أضعاف، فإن الحياة في المدينة أكثر تسبباً بتدهور الصحة النفسية. من جهة أخرى، تولّد الآلات الزراعية مستويات عالية من تلوث الهواء، ما يعني أن بعض سكان المناطق الريفية في بعض البيئات قد يكونون معرضين للخطر أيضاً.
وتقول دراسة بريطانية أجراها باحثون من جامعة يورك، ونُشرت في المجلة الدولية للصحة العامة، إن سكان المدن يمتلكون صحة نفسية أفضل من سكان الريف، وذلك لأنهم يمشون ويذهبون من مكان إلى آخر أكثر من نظرائهم في الريف، فهم ينتقلون بين المرافق والمتاجر والمكاتب والمنازل، فالمشي ونشاط الفرد يعززان صحته النفسية بشكلٍ عام.
على الرغم من ذلك، أظهرت دراسة أجراها باحثون من جامعة هايدلبيرغ الألمانية ونُشرت في دورية نيتشر، أن سكان المدن يعانون ارتفاع معدل الإصابة باضطرابات الصحة النفسية، بما في ذلك الاكتئاب والذهان والفصام، وارتفاع معدل الإدمان على المخدرات والكحول، وذلك بسبب الضوضاء أو حركة المرور، علاوة على الضغط الاجتماعي الأكبر في المدينة مقارنة بالبيئة الريفية بسبب العدد الأكبر من الأشخاص الذين تتعرض لهم.
لكن دراسة من جامعة هيوستن الأميركية كشفت أن سكان المناطق الريفية أكثر قلقاً واكتئاباً، فضلاً عن كونهم أقل انفتاحاً وأكثر عصبية. كما أن الذين يعيشون في الريف ليسوا أكثر رضا عن حياتهم، وليس لديهم هدف أو معنى أكبر في الحياة من الأشخاص الذين يعيشون في المدن. وإن التفاوت في الوصول إلى خدمات الصحة النفسية كأحد الأسباب المحتملة لهذه الاختلافات النفسية، كما تعاني معظم المناطق الريفية من نقص في المتخصصين في الصحة النفسية.
اقرأ أيضاً: كيف تحافظ على نشاطك الذهني؟ إليك أفضل 7 تمارين
قد يكون الحل في التطبيب عن بُعد
قد توفّر الإنترنت حلاً يقلّص الفجوة الصحية بين سكان الريف والمدن، إذ يمكن عبر نشر التطبيب عن بعد توفير خدمات الرعاية الصحية عبر مسافات شاسعة للمناطق الريفية المحرومة منها، بما في ذلك الاستشارات عن بُعد مع مقدمي الرعاية الصحية والمتخصصين. وقد يساعد التطبيب عن بُعد أيضاً على جذب مقدمي الرعاية الصحية والاحتفاظ بهم في المناطق الريفية من خلال توفير التدريب المستمر والتفاعل مع مقدمي الخدمات الآخرين.
أين يجب أن تعيش: في المدينة أمْ في الريف؟
في الواقع، قد تكون المنطقة التي يعيش فيها الفرد، والبلد الذي يعيش فيه، أكثر أهمية من العيش في المدينة أو الريف، إلى جانب السياسة المحلية والاجتماعية والوضع الاقتصادي للشخص. فليست المدن جميعها مناسبة لعيش حياة صحية، ولا تعاني المجتمعات الريفية كلّها تراجع صحة قاطنيها وصعوبة الوصول إلى الخدمات الصحية.
عموماً، تكون حياة المدينة أفضل لك إذا كنت تبحث عن الرعاية الطبية، أو عن فرص أفضل في العمل والتعليم، أو عيش حياة بنشاطات يومية متنوعة، يسهل التنقل بينها. أمّا إذا كنت تبحث عن حياة أكثر هدوءاً وبعيداً عن صخب المدينة، فعليك العيش في الريف حيث المساحات الشاسعة، والحياة التي تتمتّع بخصوصية أكبر، مع القرب من الطبيعة. وفي هذا الحال اختر منطقة ريفية توجد بها نقطة طبية من أجل الحالات الطارئة.