قبل فترة طويلة من جائحة كوفيد-19، عانى البشر من جائحة «إنفلونزا بابل» وذلك عام 1200 قبل الميلاد. ثم جاء «طاعون أثينا» عام 429 قبل الميلاد، و«طاعون جستنيان» عام 541، و«الطاعون الدبلي» في منتصف القرن الرابع عشر، والذي سجل أعلى حصيلة للقتلى في تاريخ البشرية. بعد ذلك، في العقد الثاني من القرن العشرين، ضربت جائحة «الإنفلونزا الإسبانية» سيئة الصيت العالم. في القرن الماضي، شهدنا أيضاً آفات شلل الأطفال، وفيروس نقص المناعة البشرية، والحصبة والسارس، والإيبولا.
تنتشر الجائحات وتتلاشى في النهاية، وعادة ما تتبع أنماطاً متشابهة. من المرجّح ألا تكون جائحة كوفيد-19 استثناء، على الرغم من أنه بعد عامين مميتين، كان من الصعب معرفة ما علينا أن نفعل للمضي قدماً. لكن مسؤولي الصحة العامة ما زالوا يحاولون، على الرغم من التطور السريع للفيروس. في جلسة مناقشة في المنتدى الاقتصادي العالمي الشهر الماضي، قام «أنتوني فاوتشي»، مدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية، وكبير المستشارين الطبيين للرئيس الأميركي «جو بايدن»، بتقسيم جائحة كوفيد-19 إلى 5 مراحل: الجائحة، التباطؤ، السيطرة، الإزالة، والاجتثاث. قال فاوتشي لاحقاً لموقع «بوبساي»: «لقد صغت هذه المراحل بناءً على تجربة تاريخية مع الجائحات، بالإضافة إلى تجربتي الشخصية»، وأضاف: «التاريخ يعيد نفسه. كنت أحاول أن أضع الأمور في نصابها بناءً على تجربتنا التاريخية مع مسببات الأمراض، وخاصة الفيروسات، التي هددت المجتمعات البشرية».
تقول «لورين سوير»، باحثة الصحة العامة في المركز الطبي في جامعة نبراسكا، إن تصنيف مراحل الجائحة هو وسيلة مهمة للتواصل مع عامة الناس بشأن الخطوات التالية التي يجب اتخاذها. إلا أنها تحذر من الجمود في التعريفات المطلقة، فحسب تعبيرها «استخدام عبارات مثل هذه يمكن أن يساعدنا في بدء نقاشات، وفي معرفة المرحلة التي نحن فيها».
بالاعتماد على التاريخ وأحدث الأبحاث حول مرض كوفيد-19، إليك ما يعتقده فاوتشي وأقرانه حول الفترة القادمة من الجائحة.
اقرأ أيضاً: كيف استعدت لياقتي البدنية بعد الإصابة بكوفيد-19؟
الجائحة الحقيقية
وفقاً لفاوتشي، فإن المرحلة الأولى لتفشي المرض على نطاق واسع هي مرحلة «الجائحة». هذا ما كان العالم يواجهه خلال العامين الماضيين: عدم الاستقرار الاجتماعي، والانتشار المجتمعي الخارج عن السيطرة، وانهيار أنظمة الرعاية الصحية، والوفيات الجماعية. منذ أن عبر فيروس كورونا حدود الولايات المتحدة لأول مرة في أوائل عام 2020، أصاب المرض أكثر من 76 مليون شخص في البلاد (حوالي خُمس السكان) وأودى بحياة ما يقرب من 900,000 شخصاً.
في هذه الأوقات العصيبة، لم تتمكّن البلاد من الخروج من مرحلة الجائحة مطلقاً، مع حدوث انخفاضات في الحالات تبعتها ارتفاعات مفاجئة ناجمة عن سلالات جديدة.
اقرأ أيضاً: كيف ساهمت اللحوم النباتية وكوفيد-19 في تصاعد الاهتمام بقوام الطعام؟
التباطؤ
الآن بعد أن انتشرت موجة سلالة أوميكرون في مختلف أنحاء العالم، تشهد الولايات المتحدة ودول أخرى انخفاضاً في عدد الحالات. إذا استمر هذا النمط الهبوطي، فسنصل إلى مرحلة «التباطؤ». يُفترض أن تشير التحسنّات في العديد من المقاييس الصحية، ومنها معدلات الاستشفاء، وعدد الحالات اليومية، ومعدلات الوفيات، إلى أن المرحلة الأسوأ قد انتهت. يقول فاوتشي إن هذه هي المرحلة التي تمر بها الولايات المتحدة الآن، على الرغم من أن باحثين آخرين يقولون إنه لا يزال من السابق لأوانه معرفة ذلك على وجه اليقين. في مدينة نيويورك، على سبيل المثال، انخفض متوسط حالات كوفيد-19 الجديدة إلى أقل من عُشر ذروتها منذ الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني 2022، واستقر عدد الوفيات. أبلغت ولايات مثل فلوريدا وألاسكا عن انخفاض مطّرد في متوسط الحالات اليومية. في جنوب إفريقيا، حيث اكتُشفت سلالة أوميكرون لأول مرة، انخفض متوسط عدد الحالات بنسبة 90% تقريباً عن الذروة في شهر ديسمبر/كانون الأول 2021، ما دفع الحكومة إلى رفع القيود المتعلقة بالجائحة جزئياً.
كما تذكر سوير، يصعب تحديد هذه المرحلة في وقت مبكر، ومن الأسهل أن ندرك أننا فيها بعد وقت.
اقرأ أيضاً: ما هي أحدث توصيات الوقاية من كوفيد-19؟
السيطرة
بعد تباطؤ مستمر، يمكن للبلدان الخوض في مرحلة السيطرة على الجائحة، والمعروفة أيضًا باسم مرحلة استيطان المرض. خلال هذه المرحلة، يمكن للناس بشكل تدريجي التخلي عن أشد الاحتياطات صرامة والعودة إلى ممارسة الحياة بشكل طبيعي. سيظل الفيروس كامناً بيننا، خطير ولكن يمكن التحكم فيه. ستكون هناك حالات إصابة محلية، لكنها لن تخرج عن نطاق السيطرة.
مع ذلك، لا تنتهي الجائحة في مرحلة السيطرة. يجب على الناس أن يظلوا يقظين للتعامل مع الحالات متى وأينما ظهرت. في هذه المرحلة، تُعد اللقاحات والاختبارات وعلاجات ما بعد العدوى هي وسائل الحماية الأساسية.
اقرأ أيضاً: ماذا تفعل إذا حصلت على نتيجة إيجابية في اختبار كوفيد-19 أو تعرّضت للعدوى أو شعرت بأعراض؟
الإزالة، ثم الاجتثاث
تحدث مرحلتي الإزالة والاجتثاث عندما يتم التخلّص من الفيروس في بلد ما، ومن ثم العالم بأسره إلى الأبد. مع توقّف حالات التفشي، يصبح المرض ذكرى بعيدة لا داعي للقلق بشأنها في الأجيال القادمة.
يقول فاوتشي إن المرحلتين الأخيرتين ليستا أهدافاً واقعية بما يخص جائحة كوفيد-19. بينما قضت الولايات المتحدة على شلل الأطفال والحصبة (على الرغم من أن تردد المواطنين في تلقّي اللقاحات أدى إلى ظهور الحالات مجدداً في العقد الأخير)، لم يتم القضاء على هذه الفيروسات لأنها لا تزال تنتشر خارج الولايات المتحدة. يوجد مرض واحد فقط استطاع البشر القضاء عليه بنجاح: الجدري، في عام 1980.
تقول «مونيكا غاندي»، طبيبة الأمراض المعدية في جامعة كاليفورنيا، سان فرانسيسكو، إن الفيروس الذي يتسبب بمرض كوفيد-19 لا يمكن إزالته أو اجتثاثه. تشرح غاندي قائلة: «إنها الحقيقة المرة، لكنها شيء يجب أن نعترف به». على عكس الجدري، لا يحقق فيروس كورونا أياً من الشروط التي تجعل إزالته أو اجتثاثه أمراً ممكناً، وهو نجاح تطوّري من بالنظر إلى هذا الفيروس. على سبيل المثال، تتشابه أعراض كوفيد-19 إلى حد كبير مع أعراض أمراض الجهاز التنفسي الأخرى، ما يمنعنا من تحديد وعزل المرضى بالسرعة اللازمة. علاوة على ذلك، فإن العامل الممرض شديد العدوى وله فترة حضانة طويلة نسبياً، إذ تمتد في بعض السلالات لمدة تصل إلى أسبوعين أو 20 يوماً بالنسبة للمرضى المصابين بحالات شديدة. هذا يعني أن الفيروس يمكن أن ينتشر قبل أن يدرك الناس أنهم مرضى.
يجدر الذكر أيضاً أننا لا نمتلك لقاحاً يوفر مناعة ضد الفيروس مدى الحياة. لن تضمن الإصابة بالمرض السلامة أيضاً، فسلالة أوميكرون، على سبيل المثال، تحتوي على طفرة تسمح لها بإصابة البشر أكثر من مرة. وأخيراً، حتى لو تمكنا من حماية كل فرد من الفيروس، فلا يزال بإمكانه إصابة مضيفات مثل الغزلان ذات الذيل الأبيض والحيوانات الأليفة المنزلية، والتطوّر ثم ضرب البشرية مرة أخرى. يزيد الغموض المستمر عن الأصول الحيوانية للفيروس من تعقيد فهمنا لأثره في جميع أنحاء العالم الطبيعي، جنباً إلى جنب مع محاولاتنا لإحباط تفشي المرض في المستقبل.
اقرأ أيضاً: ما مقدار الوقاية التي يوفّرها فيتامين د من مرض كوفيد-19؟
التعامل مع ما تبقى من الجائحة
قال فاوتشي عندما سُئل عن الخطوات التالية في المعركة ضد كوفيد-19: «أفضل ما يمكن أن نأمله هو مستوى مناسب جداً من السيطرة». يشبّه فاوتشي هذه المرحلة المستقلبية بـ «هدنة» البشر الهشة مع الإنفلونزا، والذي تعلمنا التعامل والتعايش معه. على حد تعبير فاوتشي، يجب على الولايات المتحدة أن تسعى للوصول إلى معدلات إصابة يمكن التحكم فيها، والتي تتساوى مع أمراض الجهاز التنفسي الشائعة مثل الإنفلونزا.
يؤكد فاوتشي أن البلاد لا تزال بعيدة عن مرحلة السيطرة، مع وصول حالات الاستشفاء والوفيات لمستويات «غير مقبولة». تُسجّل أكثر من 300 ألف حالة جديدة يومياً في الولايات المتحدة، ويقترب عدد الوفيات من المليون. على الرغم من الانخفاض العام في حالات تفشي المرض، إلا أن أنظمة الرعاية الصحية في جميع أنحاء البلاد تتعرض للضغط، واضطرت بعض الولايات إلى حشد الحرس الوطني للمساعدة في المستشفيات ومراكز الاختبار وحتى الصفوف الدراسية. في حين أن المستويات «المقبولة» هو مقياس غامض، يؤكد فاوتشي أننا بحاجة إلى الوصول إلى معدل إصابة منخفض بما يكفي لتخفيف الضغط عن السكان المعرضين للخطر، وهم كبار السن، والأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة، والشباب. يقول فاوتشي: «أريد أن أتأكد من أن الناس يقدرون قيمة ألا يقبلوا مفهوم التعايش مع الفيروس عندما تكون هذه المستويات مرتفعة لهذه الدرجة».
هذا يعني أن وصول المرض لمرحلة الاستيطان هو أمر بعيد المنال، على الرغم من أن الخبراء لديهم بعض الأدلة التي تساعد في إيجاد طريقة للوصول إلى هذه المرحلة. تقول غاندي إن السر هو انتشار سلالة أكثر قابلية للانتقال، والأهم من ذلك، أكثر اعتدالاً، مثل سلالة أوميكرون. تشير التوقعات إلى أنه بحلول مارس/آذار 2022، سيصاب 60% من سكان العالم بهذه السلالة. تضيف غاندي: «سيوفر هذا مستوى مرتفعاً من المناعة»، إلا أنها قد لا تستمر لأكثر من عام.
تشير غاندي إلى أن تطور جائحة كوفيد-19 يشبه تطور جائحة الإنفلونزا عام 1918 من بعض النواحي. في ذلك الوقت، بعد سحق الموجتين الأولى والثانية، أدى انتشار سلالة جديدة إلى موجة ثالثة وأخيرة، ويشك الباحثون اليوم في أن هذه السلالة كانت معدية أكثر، لكنها أخف شدة. أدخلنا هذا في النهاية، بالإضافة إلى تطوير لقاحات الإنفلونزا في عام 1942، إلى مرحلة السيطرة التي تستمر حتى اليوم.
اقرأ أيضاً: بعد مرور مائة عام، ما زلنا غير متأكدين من سبب وفاة الكثير من الناس بالإنفلونزا الإسبانية
لكن، وفقاً لفاوتشي، هذا ليس أكثر من «أفضل سيناريو ممكن»، ويضيف: «هناك أيضاً أسوأ سيناريو ممكن، وهو يتمثّل في تطوّر سلالة جديدة مقاومة للوقاية المناعية». بالنظر إلى القدرة الحالية لفيروس كورونا على التكيّف، من المنطقي الاعتقاد بأن سلالة أوميكرون يمكن أن تؤدي إلى تطوّر سلالة أكثر ضراوة. يقول فاوتشي: «مع الوقاية المناعية التي نتمتع بها حالياً في المجتمع، أود أن أقول إن ذلك غير مرجح»، ويضيف: «لكن يجب أن نكون مستعدين لذلك».
يدعو خبراء آخرون إلى اتباع نهج متشدد في التعامل مع سلالة أوميكرون، بغض النظر ما إذا كنا في مرحلة التباطؤ الآن أم لا. تقول «جوليا رايفمان»، خبيرة الصحة العامة في جامعة بوسطن، إن الولايات المتحدة لديها تاريخ سيء عندما يتعلق الأمر بالتنبؤ بتراجع الجائحة. تستشهد رايفمان بقرار الحكومة بإلغاء الارتداء الإجباري للكمامات في الأماكن الداخلية وسياسات التباعد الاجتماعي في مايو/أيار 2021، معتقدة أن الأسوأ قد انتهى. لكن البلاد فقدت 300 ألف حياة إضافية بسبب فيروس كورونا منذ يوليو/تموز 2021، وقد تكون هناك زيادة أخرى وشيكة في الإصابات، خاصة إذا كانت العدوى موسمية، كما هو الحال مع أمراض الجهاز التنفسي الشائعة الأخرى. تقول رايفمان: «لقد كنا نتمتّع بالكثير من الثقة المفرطة»، وتضيف: «يجب أن نتحلى بالتواضع بشأن هذا الفيروس الجديد نظراً للأضرار الجسيمة التي تسبب بها».
توافق سوير على أننا لا ينبغي أن نعتقد أن ذروة الجائحة قد مرّت، بغض النظر عن مدى التراجع في معدلات الإصابة الحالية، أو مدى الإرهاق الذي يشعر به البشر حول العالم بسبب الجائحة. تقول سوير: «إحدى الأمور التي يجب أن نفعلها هي الاستمرار في القتال لفترة أطول قليلاً»، وتضيف: «مع اقترابنا مما يبدو أنه نهاية الجائحة، يجب علينا مواصلة السعي لتوزيع اللقاحات في جميع أنحاء العالم، وعدم التخلي عن الأشخاص الذين لم يتلقّوا اللقاح بعد».
التلقيح هو بالتأكيد وسيلة للسيطرة، لكن اللقاحات الحالية قد لا تكون كافية لإيصالنا إلى هذه المرحلة. يقول العلماء الذي يبحثون في مرض كوفيد-19 إن كل جرعة معززة توفر عوائد متناقصة لتعزيز المناعة، ومن غير المرجح أن يستمر الأشخاص في تلقّي هذه الجرعات. وعلى الرغم من أن اللقاحات غير المعتمدة على الرنا المرسال يمكن أن توفر حلاً بديلاً لتلقي الجرعات المعززة بانتظام، يتّفق الخبراء مثل فاوتشي على أن الهدف الأكبر هو بناء مناعة ضد المرض في الوقت الحالي، حتى نتمكن من أن نسبق وتيرة تطور الفيروس.
في النهاية، فإن التمييز بين مرحلتي الجائحة والاستيطان صعب. إن تسمية المراحل المختلفة يوحي بالقدرة على التنبؤ بنهاية الجائحة، ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه النهاية قريبة. أصبحت الولايات المتحدة بالفعل أكثر استعداداً الآن مما كانت عليه في مارس/آذار 2020، مع طرح اللقاحات لجميع الفئات العمرية تقريباً، وتوزيع الاختبارات والكمامات المجانية على نطاق واسع، وتوفير خيارات متعددة للعلاجات والحبوب المضادة للفيروسات. ما يتعين علينا القيام به الآن هو حل مشكلة عدم المساواة العالمية في اللقاحات، والوصول إلى مرحلة السيطرة. بينما قد لا تحقق الإنسانية أبداً سلاماً تاماً مع الفيروس، إلا أن الهدف على الأقل هو عدم البقاء في حرب مستمرة وشاملة معه.