يبدأ السرطان بتحول خلايا صحية إلى خلايا سرطانية تتكاثر على نحو غير متحكَّم به؛ ما يؤدي إلى تكوين الأورام وانتشارها إلى أجزاء أخرى من الجسم. عادةً ما تكون هذه التحولات ناتجة عن طفرات جينية في الحمض النووي، لكن اكتشاف فريق من العلماء الفرنسيين يتحدى فهمنا الراسخ عبر عقود لآلية تطور السرطان، حيث أثبتوا إمكانية نموه حتى في غياب أي طفرات جينية.
اقرأ أيضاً: لماذا يحدث السرطان؟ وما هي أهم علاجاته المتوفرة حتى الآن؟
اكتشاف جديد يتحدى فهمنا للسرطان
توصّل باحثون في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) إلى أن حدوث تغيرات إيبيجينية (Epigenome) (وهي مجموعة من العلامات الكيميائية التي تُحدد نشاط الجينات) لدى ذباب الفاكهة يمكن أن يؤدي إلى نمو السرطان دون الحاجة إلى حدوث طفرات جينية؛ وهذا يعني أن بعض أنواع السرطان لا تنتج عن تغييرات في تسلسل الحمض النووي نفسه، بل عن تغييرات في كيفية قراءة المعلومات الجينية وتنظيم تعبيرها.
وجد الباحثون أن إحداث اضطراب مؤقت في الوظيفة الطبيعية لبروتينات مجموعة بوليكومب (Polycomb Group Proteins)، التي تؤدي دوراً أساسياً في التنظيم الإيبيجيني والتحكم في التعبير الجيني والحفاظ على وظائف الخلايا، يؤدي إلى مشكلات في نمو الخلايا وتمايزها والإصابة بالسرطان. وحتى بعد استعادة التعبير فوق الجيني للذباب إلى حالته الأصلية، ظلت بعض أجزاء جينومه غير وظيفية، واستمرت الأورام في النمو؛ ما يدل على أن هذه التغييرات الإيبيجينية يمكن أن تكون دائمة.
هل الطفرات الجينية ضرورية؟
تُعد نتائج هذه الدراسة التي نُشرت في دورية نيتشر (Nature) تحدياً للفرضية السائدة منذ أكثر من 3 عقود، والتي كانت تعتبر السرطان مرضاً جينيّاً بصورة رئيسية، وتُرجع أصله إلى الطفرات الجينية في الحمض النووي، والتي قد تحدث تلقائياً خلال انقسام الخلايا، أو تُحفّز بفعل عوامل بيئية، مثل دخان التبغ، أو تُورث من الآباء والأمهات.
دور التغيرات الإيبيجينية
يحتوي الإيبيجينوم على مجموعة من العلامات الكيميائية التي تُحدد أي الجينات في الخلايا تكون نشطة وأيها لا تكون كذلك، وتشير التغيرات الإيبيجينية إلى اختلافات في أنماط التعبير الجيني التي تحدث دون تغيير التسلسل الجيني الأساسي. تؤدي هذه الاضطرابات الإيبيجينية دوراً حاسماً في قابلية الإصابة بالسرطان. فيما يلي شرح لكيفية إسهام التغيرات الإيبيجينية في الإصابة به:
اقرأ أيضاً: 10 أمراض يمكن تشخيصها مبكراً بالتحاليل الجينية
- تنظيم التعبير الجيني: تتحكم التعديلات الإيبيجينية، مثل التغيرات في بنية الكروماتين والهستون، في تعبير الجينات المشاركة في العمليات الخلوية الأساسية؛ مثل نمو الخلايا والتمايز والموت المبرمج. يمكن أن يؤدي الخلل في تنظيم هذه العمليات إلى انتشار الخلايا غير المنضبط، وهو سمة مميزة للسرطان.
- تثبيط جينات مثبطة للورم: يمكن للتغيرات الإيبيجينية أن تُسكت جينات مثبطة للورم، مسؤولة عن منع نمو الخلايا وتطور الأورام؛ ما يمكن أن يُعزز نمو الخلايا غير المنضبط ويُسهم في تطور السرطان.
- تنشيط الأورام: على النقيض من ذلك، يمكن للتعديلات الإيبيجينية أن تُنشط الجينات الورمية (oncogenes)، وهي جينات تُعزز انتشار الخلايا وبقاءها على قيد الحياة؛ ما يمكن أن يؤدي إلى تنشيط الأورام على نحو غير طبيعي.
- اللدونة الإيبيجينية: تُزود التغيرات الإيبيجينية خلايا السرطان بالقدرة على التكيف مع البيئات المتغيرة، وعدم التأثر بالاستجابات المناعية، وتطوير مقاومة للعلاجات. تتيح هذه المرونة لخلايا السرطان البقاء والحياة في ظروف صعبة، ما يُسهم في تفاقم المرض ومقاومة العلاج.
يُذكر أن الإيبيجينوم يُمكن أن يتغير بمرور الوقت؛ وذلك استجابة لعدة عوامل، مثل العمر والنظام الغذائي ونمط الحياة.
آفاق محتملة للدراسة
يُعد هذا الاكتشاف مهماً للغاية، لأنه يُقدم فهماً جديداً لآلية نمو السرطان بطرق لم تكن مفهومة سابقاً، وتفتح هذه الدراسة الباب أمام إمكانية تطوير علاجات الأمراض ومنعها، وتثير تساؤلات حول إمكانية إعادة النظر في الأمراض الأخرى التي تسببها الطفرات، ويمكن الاستفادة من هذه الدراسة في التالي:
- المؤشرات الحيوية الإيبيجينية: يمكن للتعديلات الإيبيجينية أن تُستخدم باعتبارها علامات حيوية مهمة لتشخيص السرطان وتحديد العوامل التي تسهم فيه وتوقّع استجابات العلاج. فمن خلال تحليل التغيرات الإيبيجينية المحددة في الأورام، يمكن لمختصي الرعاية الصحية تخصيص استراتيجيات علاجية فردية لكل مريض بناءً على ملفه الإيبيجيني الفريد.
- العلاج الإيبيجيني: أظهر استهداف التغيرات الإيبيجينية بأدوية محددة، مثل مثبطات ناقلة مثيل الدنا (DNA methyltransferase) ومثبطات نازعة أسيتيلاز الهستون (deacetylase histone)، نتائج واعدة في علاج السرطان. يمكن لهذه الأدوية عكس الأنماط الإيبيجينية غير الطبيعية في خلايا السرطان، ما يؤدي إلى إعادة تنشيط الجينات المثبطة للورم وإعاقة الأورام.
اقرأ أيضاً: اكتشاف جينات بشرية قد تساعد على علاج السرطان
قيود الدراسة
تسلط الدراسة الجديدة الضوء على أهمية خلل التنظيم الإيبيجيني في نشأة السرطان، حيث تُظهر أن إحداث اضطراب مؤقت في مكونات بروتين البوليكومب يؤدي إلى تغيرات جينية لا يمكن عكسها تسهم في تطور السرطان.
ومع ذلك، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار بعض القيود:
- نموذج الدراسة: استُخدم نموذج ذبابة الفاكهة (دروسوفيلا) في الدراسة، وهو مفيد لدراسات الوراثة لكنه قد لا يعكس بالكامل بيولوجيا السرطان البشري. لذلك، من الضروري التحقق من صحة النتائج في أنظمة الثدييات لضمان صحة تطبيقها على البشر.
- التعميم: قد لا تمثل الآليات التي حُددت في ذبابة الفاكهة تعقيد تطور السرطان البشري بالكامل؛ فمن الضروري إجراء المزيد من الدراسات على الخلايا البشرية أو نماذج الحيوان لتأكيد صلة هذه النتائج بأورام الإنسان.
- الأهمية السريرية: ركزت الدراسة على فهم الآليات الإيبيجينية في بداية السرطان، لكن من الضروري إجراء المزيد من البحث لتحديد الآثار السريرية والتطبيقات المحتملة لهذه النتائج في تشخيص السرطان وتحديد العوامل المساعدة وعلاج المرض.
- نطاق التغيرات الإيبيجينية: ركزت الدراسة على تأثير نقص بروتين البوليكومب في التغيرات الإيبيجينية، لكن ينبغي توسيع نطاق البحث في العلاقة بين التغيرات الإيبيجينية والتفاعلات المعقدة مع الطفرات الجينية وأثرها في تطور السرطان.
- الآثار طويلة المدى: ركزت الدراسة على العواقب الفورية لنقص بروتين البوليكومب، ومن الضروري إجراء مزيد من البحث لفهم الآثار طويلة المدى؛ مثل تقدم الورم والانتشار والاستجابات العلاجية، كي نحصل على فهم أكثر شمولية لخلل التعبير الإيبيجيني في السرطان.