ملخص: شكّلت مشاريع الإسكان والتطور العمراني تحدياً بسبب التزايد السكاني في الإمارات. وعلى الرغم من توفر عدة تقنيات مستخدمة حالياً لتوفير السكن المناسب من خلال المنازل المسبقة الصنع، فهناك تحديات مثل التفرد العمراني والتراثي وتلبية حاجات كل منزل تبعاً لعدد السكان والحاجة إلى توسيع المنزل عند نمو الأسرة، بالإضافة لتحقيق الاستدامة البيئية والاعتماد على الطاقة الطبيعية مثل الإضاءة الطبيعية للشمس. طرحت دراسة إماراتية عدة حلول لتغطية هذه الاحتياجات في مجال الإسكان ومن أبرزها استخدام نظام هجين يجمع بين العناصر الإنشائية الجاهزة والطباعة ثلاثية الأبعاد للمباني بالاستناد إلى تصميم برمجي هندسي، حيث توفّر الطباعة الثلاثية الأبعاد الفرادة الخاصة بكل منزل بتكلفة اقتصادية، وتُلبي العناصر المسبقة الصنع مثل الجدران المصمتة والجدران التي تحتوي على فتحات للنوافذ توفيراً لتكاليف التصميم والإنشاء مع السرعة في البناء. توفّر هذه الدراسة خطة عمل مقترحة بحاجة إلى الاختبار على أرض الواقع لقياس كفاءتها، وفي حال حققت الشروط المطلوبة يمكن اعتمادها في الإسكان.
بعد التطور الكبير الذي شهدته الإمارات في السبعينيات من القرن الماضي على مختلف الأصعدة، أصبحت قبلة للسكان كافة من حول العالم، وهذا الإقبال دعا إلى ابتكارات في مجال الإسكان والتوسع العمراني من خلال استخدام التكنولوجيا الحديثة في البناء كالمباني المسبقة الصنع. وعلى الرغم من توفر هذه التكنولوجيا فهي تشّكل تحدياً عمرانياً للحفاظ على التراث والتقاليد المعمارية الإماراتية من جهة، والتفرد الخاص بكل منزل من جهة أخرى. تناقش دراسة من جامعة زايد وجامعة أبوظبي منشورة في دورية (Frontiers in Built Environment) عام 2023، أجراها الباحثون الدكتور باسم عيد محمد الأستاذ المساعد في كلية الفنون والصناعات الإبداعية جامعة زايد، والدكتور محمد الكفتانجي الأستاذ المساعد في كلية الهندسة، قسم الهندسة المعمارية في جامعة أبوظبي، ورنا زريقات من مركز ميك أبوظبي (Make Abu Dhabi) التعليمي، ورند حياصات الأستاذة المساعدة في كلية الفنون والصناعات الإبداعية في جامعة زايد، عدة مقترحات تطبيقية مبتكرة للإسكان الحديث في الإمارات، إليك تفاصيلها في هذا المقال.
اقرأ أيضاً: الإسفنج البحري يمنح العلماء سر البناء الأكثر متانة
بداية مشاريع الإسكان الإماراتية
بدأت مبادرات الإسكان الوطني في الإمارات في أواخر الستينيات من القرن العشرين، بتوجيه من الشيخ زايد آل نهيان، حيث هدفت برامج الإسكان آنذاك إلى توطين البدو الرحل وتعزيز النمو السكاني في أبو ظبي بمشاركة من قِبل المهندسين المعماريين والاستشاريين الدوليين، وكانت مصممة لتوفير منازل بأسعار معقولة وعالية الجودة تعكس الهوية الثقافية للشعب الإماراتي.
تتميز المنازل الإماراتية في مشاريع الإسكان القديمة بشكلٍ عام بأنها مؤلفة من طابق واحد بطول 3 أمتار، وتتألف من غرف نوم واستقبال ومطبخ وحمام مع مراعاة بعض العادات الثقافية مثل وجود غرف استقبال مخصصة للنساء وأخرى للرجال بمساحة كلية للمنزل تصل إلى 400 متر مربع. تحتوي المنازل الإماراتية التقليدية على فناء مطل على الخارج، يكون مزخرفاً ويجلس فيه سكان المنزل للتمتع بالهواء الطلق.
وحديثاً، تم تطوير مشروع الفلاح الإسكاني في أبو ظبي عام 2015، ويتكون من خمس "قرى" تضم 4857 فيلا، بالإضافة إلى مجموعة واسعة من المرافق المجتمعية، ويهدف هذا المشروع إلى توفير حي مستدام يخدم المتطلبات وأنماط الحياة الحديثة مع الحفاظ على الهوية الإماراتية التقليدية. لكن على الرغم من وجود هذا المشروع، هناك متطلبات مستجدة للاستدامة البيئية بشكلٍ أكبر وحاجة إلى توسيع المنزل تبعاً لتغير عدد السكان بعد إنجاب الأطفال أو رعاية الأهل المسنين في المنزل بطرق أكثر تطوراً، ما يستدعي توفير طرق حديثة للعمران والتوسع السكني.
تحديات الإسكان الإماراتي الحالية
أدّى استخدام البيوت المصنّعة مسبقاً في الإسكان إلى توفير السكن المعياري للإماراتيين على مدى واسع، لكن نشأت عن برامج الإسكان الإماراتية هذه مجموعة من التحديات التي تشمل ما يلي:
- عدم المرونة في التصميم: أي غالباً ما تفتقر حلول الإسكان الجاهزة الحالية إلى القدرة على التكيُّف والمرونة لتلبية الاحتياجات المتطورة للأسر، مثل الحاجة إلى توسيع المنزل بسبب زيادة عدد أفراد الأسرة أو توفير مرآب عند شراء سيارة ومراعاة زاوية دخول الشمس وغيرها من المعايير.
- الأهمية الثقافية: يمكن للتوسع العمراني باستخدام المباني الجاهزة أن يُلبي الحاجة المُلحّة لتوفير عددٍ كبيرٍ من المساكن بوقتٍ قليل، لكن ذلك قد يكون على حساب الحفاظ على التقاليد الثقافية العمرانية للمجتمع الإماراتي، والتي يمكن تجاهلها أحياناً في بعض الممارسات المعمارية المتطورة.
- المخاوف البيئية: لا تعالج العديد من مشاريع الإسكان الحالية في الإمارات بشكل كافٍ الظروف المناخية المحلية، ما يؤدي إلى عدم كفاءة استخدام الطاقة والحاجة للتبريد الصناعي نتيجة عدم القيام بدراسة لدخول أشعة الشمس والرياح للمنزل تبعاً لموقعه. بالإضافة لذلك، ينشأ عن تقنيات العمران الحالية تلوث بيئي بمخلفات البناء، لذا من المهم محاولة التخفيف من آثارها.
اقرأ أيضاً: لماذا توقف العالم عن بناء الأبنية الكلاسيكية الجميلة؟
الحلول المقترحة لمراعاة التوسع العمراني والإسكان مع الحفاظ على الهوية الثقافية للإمارات والسلامة البيئية
اقترح باحثو الدراسة مجموعة من التوصيات العملية القابلة للتطبيق بشكلٍ مباشر للإسكان الصديق للبيئة والمحافظ على الهوية والتراث المعماري للإمارات، وشملت التوصيات ما يلي:
- التصميم المعياري والمرن: دعا الباحثون إلى تطوير قوالب تصميم معماري معيارية جاهزة، لكنها تسمح بالتخصيص المرن وفقاً لحاجة السكان كزيادة عدد الغرف وتحديد الجدران القابلة للهدم في حال الرغبة في التوسع وتوفير إمكانية فتح نوافذ وغير ذلك من التفضيلات الفردية المحددة للسكان.
- تحسين الواجهة: يمكن باستخدام تقنيات التصميم الحاسوبي المتقدمة تحسين واجهات المباني وزخرفتها لتصبح مميزة وتعكس جمالية الطراز العمراني والثقافي في الإمارات.
- تطوير أنظمة البناء الجاهزة: يقترح الباحثون في الدراسة الدمج بين أنظمة البناء الجاهزة والفعلية من خلال استخدام تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد للبناء، ما يسهم في خفض التكاليف والوقت المستغرق للبناء، وتحسين الكفاءة الإجمالية لعمليات البناء.
خلص الباحثون في الدراسة إلى استخدام "نظام بناء هجين"، يتضمن وجود أقسام جاهزة للمباني مثل الجدران المصمتة والجدران التي تحتوي على فتحات للنوافذ والأجزاء الهيكلية للمباني والسلالم، بالإضافة إلى وجود تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد للمباني التي تؤمّن الجانب الإبداعي والفردي للبناء مثل المظلات الإسمنتية للنوافذ ذات الأبعاد والميول الموافقة لموقع المنزل وزاوية دخول أشعة الشمس إليه.
اقرأ أيضاً: من الجزيرة العربية والمغرب.. أساليب عمارة مقاومة لعوامل المناخ
التكنولوجيا المقترحة للمساعدة على التطوير العمراني والإسكان في الإمارات
طرح الباحثون في الدراسة نوعين من التكنولوجيا الحديثة القادرة على تلبية المتطلبات الإماراتية الإسكانية والبيئية المستدامة مع مراعاة العامل الثقافي والفرداني التراثي، وتشمل هذه التقنيات ما يلي:
- الطباعة الثلاثية الأبعاد للمباني: تعتمد هذه التكنولوجيا المبتكرة على آلات تقوم "بطباعة" المبنى بشكلٍ ثلاثي الأبعاد باستخدام الإسمنت كمادة أولية للبناء، وتوفّر هذه الآلات الوقت والجهد والحاجة إلى يد عاملة للبناء، وتؤمِّن التصميم الفريد للمنازل.
ينشر الدكتور الكويتي محمد قاسم، الحاصل على الدكتوراة في تكنولوجيا الهندسة الإلكترونية، ويعمل حالياً استشارياً في مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وهو أحد أكبر المهتمين بنشر العلم في العالم العربي، مقطع فيديو على حسابه في منصة إكس، يظهر كيفية عمل آلة الطباعة ثلاثية الأبعاد للمباني.
طباعة منزل صغير باستخدام طابعة ثلاثة الأبعاد. المكتب الذي أعمل به في دبي مطبوع بطابعة ثلاثية الأبعاد، وهو أول مكتب طبع في الإمارات. تحفة فنية. صورة المكتب في التغريدة التالية.
— Dr. Mohamed Qasem د. محمد قاسم (@mqasem) شاهد على إكس
- التصميم الحاسوبي: أشار مؤلفو الدراسة إلى أهمية التصميم الحاسوبي في تحسين البناء ليكون مستداماً، وذلك من خلال دراسة موقع المنزل وزاوية دخول الشمس وموقع النوافذ ووجود مظلات ذات امتداد محدد على النوافذ تضمن الحصول على الكمية المطلوبة من الأضواء الطبيعية ودخول الهواء، لكن بالوقت ذاته لا تسبب ارتفاع درجة حرارة المنزل بفعل الشمس، إذ يمكن لبرامج التصميم الحاسوبي أن تصمم وفقاً لكل حالة نوع البناء الأنسب.
تحقق هاتان الطريقتان الاستدامة البيئية من خلال توفير الإضاءة الطبيعية وتوفير التظليل المناسب الذي يحجب الحرارة، وبالوقت ذاته يمكن للطباعة ثلاثية الأبعاد أن تقلل الاستهلاك المفرط للإسمنت من خلال استخدام الكميات المضبوطة، بينما يساعد التصميم الحاسوبي على توفير المواصفات المعيارية المطلوبة من قِبل الجهات الرسمية بالتوافق مع الرغبات الفردية لأصحاب المنازل.
المقترحات المطروحة من قِبل باحثي الدراسة لتحقيق مشاريع إسكان إماراتية حديثة ومستدامة
اقترح الباحثون في الدراسة تقييم نتائج دراستهم واختبارها على الواقع للتأكد من فاعليتها الاقتصادية وقابليتها للتطبيق، وشملت اقتراحاتهم المخصصة ما يلي:
- القيام بتحليلات الطاقة الشاملة: أي دراسة كمية الطاقة المستهلكة للبناء بالنهج الهجين المقترح، ومدى توفير الطاقة في المبنى الناشئ من خلال تأمين الإضاءة الطبيعية وضبط درجة الحرارة من خلال التظليل وتحديد كمية أشعة الشمس الداخلة للمنزل، إذ يجب أن تكون الطاقة الإجمالية أقل من الطاقة المستهلكة حالياً.
- تقييمات فاعلية التكلفة: تشمل تقييمات التكلفة كلاً من التصميم والتنفيذ والمصاريف الإدارية كافة التي تنشأ عن البناء بالأسلوب المقترح.
- دراسة التكيُّف الممكن للأبنية: يُعنى هذا البُعد بدراسة قابلية المباني المُنشأة بالتكنولوجيا المقترحة على التكيُّف مع التغيرات السكانية المستقبلية، مثل توسيع المنزل لاستيعاب عدد أفراد أكبر أو إضافة مرآب وغيرها من التغييرات.
اقرأ أيضاً: ما هي المدن الإسفنجية التي توفّر وقاية من الفيضانات ومياه الشرب؟
تحاول هذه الدراسة الملاءمة بين التطور التكنولوجي والتوصيات البيئية في الإسكان والتراث المعماري الإماراتي. وعلى الرغم من صعوبة التوفيق بين هذه العوامل، فإن هذه الدراسة توفّر خطة عمل واضحة وقابلة للتنفيذ لاختبار مدى كفاءتها في تحقيق المتطلبات المستجدة في هذا المجال والنهوض بمشاريع إسكان جديدة.