قبل تناول آخر وجبة تناولتها، من المحتمل أنك شعرت بأعراض الجوع التي بيّنت لك أن وقت تناول الطعام قد حان. ربما شعرت برغبة شديدة فجائية في تناول الطعام الإيطالي أو غيره من أنوع الطعام. لم تأتِ هذه الإشارات من العدم؛ بل هي نتيجة وظيفة منطقة من الدماغ يبلغ حجمها حجم حبة اللوز وتحمل اسم "الوطاء". وعلى الرغم من صغر حجمها، تؤدي هذه المنطقة من الدماغ دوراً بالغ الأهمية في إبقائنا على قيد الحياة.
يؤدي الوطاء، الملقّب بلوحة التحكّم الرئيسة، وظائفه في الخلفية لضمان أن يبقى الجسم في أفضل حالة ممكنة. وكما هي الحال بالنسبة إلى العديد من الممثلين في الخلفية الذين يظلّون بعيدين عن المشاهد الرئيسة، أساء المجتمع العلمي تقدير أهمية هذا الجزء من الدماغ. تقول الأستاذة في قسم علم الأعصاب والفيزيولوجيا في كلية غروسمان للطب في جامعة نيويورك، دايو لين: "الوطاء هو منطقة لا تحظى بالتقدير الكافي". لاحظت لين تراجعاً في الاهتمام البحثي بمنطقة الوطاء، حتى أن البعض اعتبرها أقل إثارة للاهتمام مقارنة بالمناطق المرتبطة بالإدراك العالي والمعقد.
ولكن وفقاً لنتائج 4 دراسات مراجعة نُشرت بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في مجلة ساينس (Science)، يجهل العلماء الكثير عن هذه المنطقة. ساعدتنا التكنولوجيا المتقدّمة على التوصل إلى طرائق جديدة لدراسة الوطاء؛ ما أدّى إلى إعادة تعريف أدواره المعروفة واكتشاف أدوار جديدة.
اقرأ أيضاً: هل يسهم الجسد جنباً إلى جنب مع الدماغ في القدرات الإبداعية؟
وحدة التنظيم الأساسية في الجسم
يتحكّم الوطاء بالعديد من العمليات في الجسم؛ إذ إنه يعمل بتنسيق مع الغدّة النخامية ويتحكّم بعمليات تركيب الهرمونات جميعها. يسهم الوطاء أيضاً في عملية تنظيم درجة حرارة الجسم وضغط الدم ومعدّل ضربات القلب والشهية والعديد من العمليات الفيزيولوجية الأخرى.
يقول أستاذ علم الأعصاب في مركز بيلغرينو التابع إلى المركز الطبي في جامعة جورج تاون، جيمس جيوردانو، الذي لم يشارك في دراسات المراجعة الجديدة: "يؤدي الوطاء دوراً رئيساً في عمليات تحكّم الجهاز العصبي المركزي بالنشاط الهرموني الجسدي بالإضافة إلى عدد من الحالات المعرفية والعاطفية والسلوكية.
تبيّن أول دراسة من الدراسات الجديدة أن البنى والدارات العصبية المعقّدة التي يتمتّع بها الوطاء تمنحه قدرة عالية على التأثير في العديد من العمليات الجسدية. ينقسم الوطاء إلى مجموعة من كتل الخلايا التي تحمل اسم "النوى"، ويحتوي مسارات عصبية متقاطعة تساعده على التواصل وتنسيق النشاط بين هذه الكتل ومع مناطق الدماغ الأخرى. يقول جيوردانو: "تُعد وظيفة الوطاء بالغة الأهمية في النشاط التكاملي للدماغ، وعلى هذا النحو، فهي مهمة لتحديد سلامة النشاط المتبادل بين الجسم والدماغ".
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: اضطرابات النوم تضاعف خطر الإصابة بالسكتة الدماغية
حتى الآن، لم يتوصل الباحثون إلى فهم عميق لوظيفة هذه الخلايا بسبب نقص الموارد العلمية. قالت لين، التي شاركت في تأليف ورقة بحثية أخرى حول دور الوطاء في السلوك الاجتماعي، إن دراسة نشاط هذه المنطقة دون التسبب باضطراب التواصل بين الخلايا كان صعباً. اعتمدت الأبحاث السابقة على دراسة الحيوانات التي تعاني الآفات في مناطق معينة من الوطاء؛ لكن هذه الأبحاث لم تمنح العلماء صورة كاملة عن الطريقة التي تتفاعل وفقها الخلايا التي أُزيلت مع بقية أجزاء الوطاء.
ساعد اختراع سلسلة الحمض النووي الريبوزي الأحادية الخلية في عام 2009، وهي تقنية مختبرية تتيح للعلماء تحليل المعلومات الوراثية للخلايا الفردية، على دراسة الدارات العصبية التي تمنح كتل خلايا الوطاء قدرتها الوظيفية المتنوعة بدقة أكبر. أنشأ الباحثون في الدراسات الجديدة مخططاً للأنواع الفرعية للخلايا في الوطاء. وتتمثّل الخطوة التالية في كشف سبب تكتّل أنواع معينة من الخلايا معاً وكيف تتحكم هذه الكتل في السلوكيات المختلفة.
سلسلة الحمض النووي الريبوزي الأحادية الخلية ليست التقنية الوحيدة التي استخدمها مؤلفو الدراسات الجديدة؛ إذ تتيح تقنية بحثية جديدة أخرى تحمل اسم "علم البصريات الوراثي" لعلماء الأعصاب استخدام الضوء لمراقبة نشاط خلايا الدماغ. بينما تعتمد طريقة ثالثة تحمل اسم "التتبع الارتجاعي" على استخدام فيروس لتتبع الوصلات العصبية بدءاً من المشابك وصولاً إلى كتل الخلايا، وهي ساعدت العلماء على اكتشاف دارات عصبية لم تُرصد من قبل.
يمكن أن تكشف هذه التقنيات في المستقبل عن أدوار أخرى يؤديها الوطاء تتعلق بتنظيم السلوكيات مثل القلق واستجابات الألم. من ناحية أخرى، يتوقع مؤلفو الدراسات الجديدة أن الوطاء يتصل مباشرة بميكروبيوم الأمعاء؛ ما يعني أنه قد يكون مسؤولاً عن التأثيرات البكتيرية المعوية وتأثيرات السيروتونين والهرمونات الأخرى التي تؤدي دوراً في تنظيم العمليات المتعلقة بتناول الطعام.
النوم والتكيّف الاجتماعي والأهداف
تركز الدراسات الثلاث الأخرى على الوظائف الرئيسة للوطاء. على سبيل المثال؛ تتحكّم بعملية النوم عصبونات محددة تؤدي دور "مفتاح" ينقل الجسم من حالة الراحة إلى حالة اليقظة. ولكن هذه ليست وظيفتها الوحيدة؛ إذ تؤدي خلايا النوم واليقظة دوراً مشابهاً في الأنشطة الوطائية الأخرى مثل التحكّم في استقلاب الطاقة ودرجة حرارة الجزء الأوسط من الجسم (بين الحوض والحجاب الحاجز).
يقول أستاذ الطب النفسي والعلوم السلوكية في جامعة ستانفورد ومؤلف واحدة من دراسات المراجعة الجديدة، لويس دي ليسيا: "تسلط ورقتنا الضوء على أن معظم الدارات العصبية في الوطاء تؤدي أكثر من وظيفة واحدة، وأنها كلها مترابطة. يرتبط النوم أيضاً بوظائف الدماغ جميعها تقريباً، ويؤثر فقدان النوم في العديد من الجوانب الصحية مثل الشيخوخة والتنكس العصبي".
اقرأ أيضاً: دراسة علمية: سرعة المشي قد تتنبأ بتدهور صحة الدماغ والشيخوخة المبكرة
ركّزت إحدى دراسات المراجعة الجديدة على الآلية التي يعزز وفقها الوطاء الدوافع للحصول على ما يحتاج إليه الجسم للبقاء؛ مثل الطعام والماء. ينظّم الوطاء لتحفيزنا على تحقيق هذه الأهداف نشاط داراته العصبية بطريقة تتيح لها العمل مع المنطقة السقيفية البطنية، وهي جزء من الدماغ يؤدي دوراً في عمليات المكافأة. كشف التحفيز البصري الوراثي أن الوطاء يرسل إشارات إلى المنطقة السقيفية البطنية تعزز الدوافع أو تثبّطها؛ ما يمكن أن يفسّر سلوك السعي إلى الحصول على الطعام.
يؤثر الوطاء أيضاً في تفاعلنا مع الآخرين ضمن مجموعة متنوعة من السلوكيات الاجتماعية. تشمل هذه السلوكيات التفاعلات الودية والأبوية، أو التصرفات العدوانية أو الجنسية. قالت لين، التي شاركت في تأليف هذه الدراسة: "هذه السلوكيات ضرورية للغاية لتكاثر الحيوانات وبقائها في المجتمع، ويؤدي الوطاء دوراً أساسياً في توسّط هذه التفاعلات اليومية".
تقترح لين في هذه الدراسة وجود نظام تحكم مزدوج بين الوطاء من جهة وجذع الدماغ والنخاع الشوكي من جهة أخرى. عندما يرى شخص ما شخصاً آخر يريد التفاعل معه، يعمل الوطاء مع نظام إفراز الدوبامين بهدف الحفاظ على الاهتمام الاجتماعي وتعزيز السلوكيات الأخرى المقبولة اجتماعياً، والدوبامين هو هرمون ضروري للحركات وشعور المكافأة. تستخدم دارة النخاع الشوكي وجذع الدماغ هذه المعلومات لتوجيه الاستجابات والسلوكيات الملائمة اجتماعياً.
من حيوانات المختبر إلى صحة البشر
أُجريت أغلبية الأبحاث في مجال دراسة تفاصيل العمليات التي يجريها الوطاء على الحيوانات. تقول لين إن دراسة الفئران المعدلة جينياً، وهي فئران تُستخدم لدراسة العمليات الحيوية والأمراض البشرية، تسهّل عملية فحص جزء معين من الوطاء دون تخدير هذه الحيوانات. هذه الطريقة مفيدة بصورة خاصة لدراسة السلوكيات الجماعية؛ وذلك لأن تنشيط دارات الدماغ الاجتماعية يتطلّب أن تتمكّن الحيوانات من التحرك بحرية.
على الرغم من أن هذه الدراسات أُجريت على الحيوانات، يستفيد العلماء بالفعل من المعلومات الجديدة حول الوطاء في تطوير العلاجات للبشر. على سبيل المثال؛ يعمل العلماء حالياً على استخدام التحفيز العميق للدماغ لاستهداف الجزء الخلفي من الوطاء بهدف تخفيف السلوكيات العدوانية أو الوقاية منها. يمكن أيضاً استهداف دارات معينة في الوطاء لمعالجة مشكلات أخرى مثل الأرق والإدمان. تتنبّأ لين بأننا سنسمع في العقد المقبل المزيد من الأخبار عن التجارب السريرية التي تستهدف الوطاء لمعالجة السلوكيات الإشكالية.