التعليم ليس ضرورياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل هو وسيلة أيضاً لتحسين صحة البشر وزيادة عدد سنوات عمرهم. هذا ما تقوله مراجعة جديدة نُشِرت في مجلة ذا لانسيت (The Lancet) للصحة العامة في يناير/كانون الثاني 2024، حيث قدّمت الدليل الأكثر شمولاً حتى الآن على أن التعليم يؤدي دوراً في انخفاض معدل الوفيات. تُعدُّ هذه الدراسة جزءاً من مشروع يهدف إلى قياس تأثير الصحة والتعليم والتغذية في البشر. مُوِّل المشروع بوساطة كلٍّ من مجلس البحوث النرويجي ومؤسسة بيل وميليندا غيتس، وإليك التفاصيل.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة تكشف أكثر أسباب الوفاة شيوعاً في عصرنا الحالي
بيانات الدراسة
المراجعة التي أجراها باحثون من معهد القياسات الصحية والتقييم (Institute for Health Metrics and Evaluation)) في ولاية واشنطن الأميركية، هي مراجعة منهجية وتحليل تلوي لـ 603 دراسات من 70 موقعاً في 59 دولة، وتغطي إجمالي 10355 ملاحظة.
حلل الباحثون خلال عملهم قواعد بيانات مختلفة تشمل معلومات التحصيل العلمي ومعدل وفيات البالغين في الفترة الممتدة من 1 يناير/كانون الثاني 1980 إلى 31 مايو/أيار 2023، وذلك من أجل تحديد أهمية سنوات التعليم في الحدّ من وفيات البالغين. وشملت مجموعة متنوعة من الأفراد المختلفين في كلٍّ من العمر والجنس والدخل والحالة الاجتماعية والمنطقة الديموغرافية، كما قيّم الباحثون عدم التجانس والتحيز في تلك الدراسات.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: ساعات نوم أقل في الثلاثينيات تعني اضطراباً بعمل الذاكرة في الخمسينيات
النتائج الرئيسية للدراسة
أظهرت النتائج أن التعليم يؤثّر في وفيات البالغين الناجمة عن الأسباب جميعها؛ حيث وُجِد أن الشخص البالغ الذي قضى 12 عاماً في المدرسة لديه خطر وفاة أقل بنسبة 24.5% مقارنة بشخص بالغ لم يلتحق بالمدرسة، حيث انخفض متوسط معدل الوفيات بنسبة 1.9% لكل سنة دراسية.
كان التأثير أكبر في الفئات العمرية الأصغر مقارنة بالفئات العمرية الأكبر سناً، حيث انخفض معدل الوفاة بنسبة 2.9% لكل سنة دراسية عند البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 - 49 سنة، مقارنة بنسبة 0.8% عند البالغين الأكبر من 70 عاماً، وذلك يشير أيضاً إلى أن فوائد التعليم تستمر حتى مع حصول الأفراد على درجات علمية متقدمة أو مؤهلات مهنية. ولم يجد الباحثون أي اختلاف في النسب بناءً على الجنس أو الدخل أو المنطقة.
هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي تجد علاقة بين ارتفاع عدد سنوات الدراسة وانخفاض خطر الوفاة عند البالغين، وتشكّل دليلاً دامغاً على أهمية التعليم في زيادة متوسط العمر المتوقع، وتشير إلى أهمية زيادة الاستثمار في التعليم باعتباره طريقة فعّالة للحدّ من ارتفاع معدل الوفيات وتحسين الصحة العامة.
اقرأ أيضاً: دراسة حديثة: ألعاب الفيديو تؤدي إلى فقدان السمع وطنين الأذن المزمن
كيف يسهم التعليم في خفض معدل الوفيات؟
وجدت المراجعة أن التعليم يساعد على تقليل خطر الوفاة من خلال تمكين الناس من الوصول إلى المعلومات والخدمات الصحية واستخدامها، وتبني سلوكيات صحية، وتحسين الصحة النفسية والعقلية. إليك توضيحاً لتأثير هذه الآليات:
- الوصول إلى المعلومات والخدمات الصحية واستخدامها: يزيد التعليم المعرفة الصحية عند الناس، وهي القدرة على الحصول على المعلومات والخدمات الصحية الأساسية وفهمها اللازم لاتخاذ القرارات الصحية المناسبة. من المرجّح أن يسعى الأشخاص ذوو المعرفة الصحية العالية إلى الحصول على الرعاية الوقائية، والالتزام بالنصائح الطبية، وإدارة الحالات المزمنة بطريقة صحيحة. ويمكن للتعليم أيضاً أن يزيد احتمال حصول الناس على التأمين الصحي، ما قد يُحسّن وصولهم لخدمات ومرافق الرعاية الصحية ويقلل التكاليف التي يتحملونها من أموالهم الخاصة.
- اعتماد السلوكيات الصحية: يؤثّر التعليم في اختيارات الأشخاص وسلوكياتهم التي تؤثّر في صحتهم؛ مثل التدخين وشرب الكحول والنظام الغذائي وممارسة الرياضة. من المرجّح أن يتبنى الأشخاص الحاصلون على تعليم عالٍ سلوكيات صحية ويتجنبوا السلوكيات غير الصحية، ما يقلل من احتمال إصابتهم بالأمراض.
- تحسين الصحة النفسية والعقلية: يعزز التعليم مهارات الأشخاص المعرفية وغير المعرفية، مثل حل المشكلات والتفكير النقدي والمرونة. يمكن أن تساعد هذه المهارات الأشخاص على التغلب على التوتر والقلق وعدم اليقين، ما ينعكس إيجابياً على صحتهم النفسية والجسدية. علاوة على أن التعليم يزيد أيضاً عدد الأشخاص الذين يعرفهم الشخص، ويسهم في تكوين شبكة من العلاقات الاجتماعية التي توفّر الدعم العاطفي والنفسي.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة: زيادة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ترتبط بالإصابة بالالتهابات
تأثير التعليم في جائحة كوفيد-19
حللت الدراسة أيضاً آثار التعليم في جائحة كوفيد-19، وتبين أن التعليم ساعد على التخفيف من الآثار المضرة للوباء وتأثيره في الصحة، وزاد معدل البقاء على قيد الحياة؛ إذ مكّن الناس من الوصول إلى المعلومات والخدمات الصحية واستخدامها، وتبني سلوكيات صحية. كانت لهذه المهارات أهمية كبيرة خلال فترة انتشار الوباء، ما يثبت أن التعليم ساعد على حماية الناس من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لكوفيد-19.
اقرأ أيضاً: بحث جديد يكشف تلوث مياه الشرب المعبأة بجزيئات البلاستيك النانوي
قيود الدراسة
تتضمن الدراسة بعض القيود التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند تفسير النتائج؛ أولاً، اعتمدت الدراسة على بيانات الرصد التي قد تكون عرضة لخطأ القياس. ثانياً، لم تأخذ الدراسة في الاعتبار جودة التعليم ونوعه، والذي قد يختلف باختلاف البلدان والفترات الزمنية. ثالثاً، لم تقيِّم الدراسة التفاعلات المحتملة بين التعليم ومحددات الوفيات الأخرى، مثل العوامل البيئية والعوامل الوراثية والأمراض.
تثبت هذه المراجعة مدى حاجتنا إلى استثمار المزيد من أجل توفير التعليم، وضرورة دعم جميع الطلاب في كل مكان ليتمكنوا من متابعة دراستهم، حتى نضمن أن يعيشوا حياةً صحية أطول فترة ممكنة.