دراسة تربط بين فقدان الصبغي Y عند الرجال والإصابة بسرطان المثانة

دراسات جديدة تؤكد العلاقة بين فقدان كروموسوم الذكورة وسرطان المثانة
تحتوي الخلية البشرية الطبيعية على 23 زوجاً من الكروموسومات، ومنها زوج واحد من الكروموسومات التي تحدد جنس الفرد. الرسم البياني يُظهر الاحتمالان (XY) و(XX) في أسفل الزاوية اليمنى. موقع بي إس آي بي للصور الطبية/ يونيفرسال إميدجيز غروب عن طريق غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

أمضى طبيب أورام المسالك البولية دان ثيودوريسكو 25 عاماً من إجراء الأبحاث حول سرطان المثانة، إذ كان يعمل بتركيز شديد ودون انقطاع بهدف تحقيق إسهامات مهمة في هذا المجال، إنه يقول: “عندما تواجه تحدياً أو مشكلة ما في عملك، وتحاول حل هذه المشكلة، تشعر بأنها مهمة جداً وأن تجاوزها سيكون له تأثير كبير على عملك أو بحثك”.

في أحدث دراسة له، والتي نُشرت في 21 يونيو/حزيران 2023 في مجلة نيتشر (Nature)، قدّم ثيودوريسكو صورة واضحة حول سبب ارتفاع خطر إصابة الرجال بسرطان المثانة.

العلاقة بين كروموسوم الذكورة واي (Y) وسرطان المثانة

كشفت الدراسة عن وجود علاقة بين هذا المرض والضرر الذي يلحق بالكروموسوم واي (Y)، وهو الصبغي الذي يميز الذكور عن الإناث عند الثدييات. يمكن القول إن سرطان المثانة مرض ذو طابع جنساني؛ إذ يتأثر الرجال بصورة أكبر بهذا المرض مقارنةً بالنساء. في الواقع، يتعرض الرجال لخطر الإصابة بسرطان المثانة بمعدل رجل من كل 28 رجلاً، بينما تواجه النساء خطر الإصابة بهذا المرض بمعدل امرأة واحدة من كل 91 امرأة.

اقرأ أيضاً: دراسة حديثة تفسر العلاقة بين التهاب المسالك البولية ومرض السكري

يسعى ثيودوريسكو، الذي يشغل حالياً منصب مدير معهد صامويل أوشن الشامل للسرطان (Samuel Oschin Comprehensive Cancer Institute) في مركز سيدارز سيناي الطبي (Cedars-Sinai)، إلى فهم سبب تعرض الرجال بصورة أكبر للإصابة بهذا النوع من السرطان. وذلك بعيداً عن عوامل الخطر الشائعة مثل التدخين، لقد تمحورت أبحاثه، التي استمرت لعقود من الزمن، حول التغيرات التي تطرأ على الهرمونات والكروموسومات بوصفها أسباباً محتملة للإصابة بسرطان المثانة عند الرجال. حيث أظهرت دراسات سابقة أن زيادة مستويات هرمون الأندروجين (Androgens)، الذي يُنتج في الخصيتين والمبايض، تعوق قدرة الجسم على محاربة الأورام السرطانية. لكن عدداً قليلاً من الباحثين ركزوا أبحاثهم على دور الكروموسومات في الإصابة بسرطان المثانة.

لاحظ العلماء اختفاء الكروموسوم Y بصورة طبيعية من بعض الخلايا مع تقدم الرجال في السن. وهي ظاهرة شائعة؛، إذ يفقد 40% على الأقل من الرجال كروموسوم Y جزئياً عند بلوغهم سن الـ 70. ربطت الأبحاث السابقة بين هذه الظاهرة والعديد من المشكلات الصحية، مثل زيادة خطر الإصابة بالقصور القلبي ومرض ألزهايمر والوفاة المبكرة

بدأ ثيودوريسكو وفريقه بدراسة العلاقة بين اختفاء الكروموسوم Y وسرطان المثانة، حيث زرع الباحثون مجموعتين من الخلايا المأخوذة من ذكور الفئران، وفصلوا هاتين المجموعتين، الأولى تحمل الكرموسوم Y من آبائها والأخرى لا تحمله. وجد الباحثون أن الخلايا السرطانية التي فقدت الكروموسوم Y كانت أكثر عرضة للنمو غير الطبيعي مقارنةً بالخلايا التي تحمل هذا الكروموسوم. 

تضمنت الخطوة التالية تجميع 16 خلية سرطانية من الفئران التي تحمل الكروموسوم Y الطبيعي مع 16 خلية تفتقر إلى الكروموسوم Y. لاحظ الباحثون أن الخلايا السرطانية التي تحمل الكروموسوم Y لا تنمو بالطريقة نفسها التي تنمو بها الخلايا التي تفتقر إلى هذا الكروموسوم. 

ما تفسير ذلك؟

على الرغم من أن هذه التجارب تشير إلى دور الكروموسوم المسؤول عن تحديد الجنس في تطور السرطان، لكنها لا تفسر سبب نمو الأورام السرطانية في المثانة بصورة غير طبيعية عند فقدان هذا الكروموسوم. تفسر إحدى الفرضيات ذلك بأن الخلايا السرطانية التي لا تحتوي على الكروموسوم Y تنمو على نحو أسرع لأنها تستطيع التهرب من الجهاز المناعي للإنسان بسهولة أكبر.

لاختبار هذه الفرضية، حقن الباحثون الخلايا السرطانية التي تحمل الكروموسوم Y والخلايا السرطانية التي تفتقر إلى هذا الكروموسوم في أجسام فئران بعد تعطيل جهازها المناعي. نمت الخلايا السرطانية كلها بالسرعة نفسها، يقول ثيودوريسكو: “كان هذا دليلاً على أن الخلايا السرطانية التي تفتقر إلى الكروموسوم Y تؤثر على جهاز المناعة بطريقة ما، وتمنعه من الاستجابة بصورة فعالة للخلايا السرطانية”.

اقرأ أيضاً: ما سر ارتفاع نسب الإصابة بالسرطان في مرحلة الشباب لدول الشرق الأوسط؟

في تجربة أخرى، استخدم الباحثون فئراناً معدلة وراثياً وتفتقر إلى أجزاء مختلفة من جهازها المناعي، فوجدوا أن الخلايا المناعية المسؤولة عن مكافحة العدوى، والتي تسمى الخلايا التائية (T cells)، كانت الأكثر تضرراً من فقدان الكروموسوم Y. يقول ثيودوريسكو: “قارنّا الخلايا التائية الموجودة في الأورام السرطانية التي تحمل الكروموسوم Y بتلك التي تفتقر إليه، ووجدنا أن الأورام التي تفتقر إلى الكروموسوم Y تؤثر على الخلايا التائية بطريقة سلبية، ما يؤدي إلى إضعافها، وبالتالي، تصبح غير قادرة على الاستجابة المناعية بصورة فعالة”.

كروموسومات (X) وكروموسومات (Y) في الخلية. عندما تُفقد بعض كروموسومات (Y)، يزداد خطر الإصابة بسرطان المثانة
من الشائع اختفاء الكروموسوم (Y) من الخلايا لدى الرجال الأكبر سناً. أحد الأسباب المحتملة لذلك هو أنه عندما تنقسم الخلايا، فإنها لا تكرر الكروموسوم (Y) لأنه صغير. جاريد شيفر لمركز سيدارز سيناي الطبي

يقول أستاذ الطب في جامعة كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو (University of California, San Francisco)، الذي يدرس كروموسوم Y البشري في أبحاثه، كريس لاو: “قد تقدم الدراسة بعض الأفكار حول العمليات البيولوجية مثل المناعة التكيفية التي تتأثر باختفاء الكروموسوم Y، ويمكن أن تساعد هذه الآلية المكتشفة في تفسير السبب وراء خطر الإصابة بالأمراض الأخرى التي تصيب الرجال الذين يفتقرون إلى بعض الكروموسومات Y، والتي يمكن أن يكون للجهاز المناعي دور فيها”. 

بالطبع، السؤال الأهم هو مدى قدرة الأطباء على استخدام هذه المعلومات لمساعدة مرضى سرطان المثانة. يتضمن أحد الخيارات المحتملة لعلاج سرطان المثانة استخدام مثبطات نقاط التفتيش المناعية (Immune checkpoint inhibitors)، التي تعمل عن طريق تعزيز استجابة جهاز المناعة لمحاربة الخلايا السرطانية.

يعمل هذا النوع من العلاجات المناعية على حجب المستقبلات التي تستخدمها الخلايا السرطانية لإرسال إشارات تُضعف قدرة الخلايا التائية على مهاجمتها. وهو يساعد أيضاً الخلايا التائية في تحديد الخلايا السرطانية ومهاجمتها. عندما أعطى فريق ثيودوريسكو الفئران مثبطات نقاط التفتيش المناعية، وجدوا أن الفئران التي تعاني الإصابة بخلايا سرطانية وتفتقر إلى الكروموسوم Y استجابت بصورة أفضل للعلاج مقارنةً بالفئران التي تحمل الكروموسوم Y.

اقرأ أيضاً: دراسات استمرت لعقود تربط بين الأطعمة فائقة المعالجة والإصابة بالسرطان والموت المبكر

يعمل ثيودوريسكو وزملاؤه حالياً على مشروع جديد لدراسة عدد من الجينات في الكروموسوم X التي تمثل نسخاً مكررة للجينات الموجودة في الكروموسوم Y، والتي تسمى الجينات المتماثلة أو بارالوغز (Paralogs). قد تسبب أي طفرات في هذه الجينات المكررة بفقدان وظيفتها، ما قد يسهم في تجنب الخلايا السرطانية للجهاز المناعي عند النساء، وبالتالي، يمكن أن يضاعف خطر الإصابة بسرطان المثانة.

يدرس الفريق مشكلة أخرى، وهي ما يحدث للرجال الذين فقدوا كروموسوم Y ولديهم طفرات في الجينات المرتبطة بهذا الكروموسوم والموجودة على الكروموسوم X. يقول ثيودوريسكو: “يمكن أن يؤدي فقدان الكروموسوم Y لدى الرجال المصابين بسرطان المثانة إلى تفاقم المرض، لكنه في المقابل يمكن أن يؤدي إلى استجابة أفضل للعلاج المناعي”. 

يضيف ثيودوريسكو: إذا حصلنا على نتائج إيجابية، سنستخدم البيانات التي جمعناها من هذه الدراسة الأخيرة لإنشاء اختبار بهدف التنبؤ باستجابة الشخص للعلاج المناعي لأي نوع من أنواع السرطان. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تساعد النتائج في تعزيز العلاج المناعي وتحسين فعاليته ضد الخلايا السرطانية التي تفتقر إلى الكروموسوم Y. لا يستبعد ثيودوريسكو إمكانية تعزيز الاستجابة المناعية ضد أنواع أخرى من السرطان أيضاً؛ إذ يقول: “إذا نجح هذا المشروع، قد نتمكن من اكتشاف علاجات مركبة يمكن أن تعالج عدداً كبيراً من المرضى مقارنةً بما يمكن أن يحققه العلاج بمثبطات نقاط التفتيش المناعية وحدها”.