اخترع الإنسان تكنولوجيا تخطيط كهربية الدماغ قبل قرن من الزمن. كان تأثير الجهاز المستخدم في هذه العملية لمراقبة كهرباء الدماغ مذهلاً في الطريقة التي اتبعها العلماء لدراسة دماغ البشر في السنوات التي تلت اختراعه.
منذ استخدامه أول مرة، كان لمخطط كهربية الدماغ تأثير كبير في فهم الباحثين للإدراك، من الإدراك الحسي إلى الذاكرة. كما أنه أدى دوراً مهماً في تشخيص العديد من اضطرابات الدماغ مثل الصرع وإرشاد علاجها.
أنا عالمة متخصصة في علم الأعصاب المعرفي وأستخدم تخطيط كهربية الدماغ لدراسة الطريقة التي يتذكّر وفقها الأشخاص الأحداث من ماضيهم. تمثّل الذكرى المئوية لتخطيط كهربية الدماغ فرصة للتأمل في أهمية هذا الاكتشاف في علم الأعصاب والطب.
اقرأ أيضاً: الأطباء يسجلون الموجات الدماغية للمرضى بهدف فهم الآلام المزمنة
اكتشاف تخطيط كهربية الدماغ
في 6 يوليو/تموز 1924، أجرى الطبيب النفسي، هانز برغر، أول اختبار تخطيط لكهربية الدماغ على إنسان، وهو صبي يبلغ من العمر 17 عاماً يخضع لعملية جراحية عصبية. كان يجري برغر وغيره من الباحثين في ذلك الوقت اختبارات لتسجيل كهربية أدمغة الحيوانات.
لكن ما ميّز برغر هو هوسه باكتشاف الأساس المادي لما أسماه "الطاقة النفسية"، أو الجهد العقلي، لدى البشر. أجرى برغر سلسلة من التجارب استمرت طوال حياته المهنية قاس من خلالها حجم الدماغ ودرجة حرارته لدراسة التغيرات في العمليات العقلية مثل العمل الفكري والانتباه والرغبة.
بعد ذلك، ركّز برغر جهوده في تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ. على الرغم من أنه سجّل أول آثار لمخطط كهربية الدماغ البشري في عام 1924، فإنه لم ينشر النتائج حتى عام 1929. اتسمت تلك السنوات الخمس بالتخبط؛ إذ عانى فيها برغر الشك حول مصدر الإشارة الكهربائية في تخطيط كهربية الدماغ وعمل على تحسين الإعداد التجريبي. سجّل برغر المئات من مخططات كهربية الدماغ لعدة أشخاص، من ضمنهم أطفاله، وحقق نجاحات تجريبية وواجه انتكاسات.
بعد اقتناع برغر بنتائجه أخيراً، نشر سلسلة من الأبحاث في مجلة أرشيف للطب النفسي (Archiv für Psychiatrie) آملاً الفوز بجائزة نوبل. لسوء الحظ، شكك المجتمع البحثي في هذه النتائج، ومرت سنوات قبل أن يبدأ أي أحد آخر باستخدام مخطط كهربية الدماغ في أبحاثه.
جرى ترشيح برغر في النهاية لجائزة نوبل في عام 1940، لكن اللجنة المسؤولة عنها لم تمنح الجوائز في ذلك العام في أي فئة بسبب الحرب العالمية الثانية واحتلال ألمانيا للنرويج.
اقرأ أيضاً: ما الذي يُمكن القيام به لتخفيف مخاطر الإصابة بالسكتة الدماغية بما يتناسب مع كل سن؟
تذبذبات عصبية
عندما ينشط العديد من الخلايا العصبية في الوقت نفسه، تولد هذه الخلايا إشارة كهربائية شديدة بما يكفي لتنتشر آنياً عبر الأنسجة الموصلة في الدماغ والجمجمة وفروة الرأس. تلتقط الأقطاب المستخدمة في تخطيط كهربية الدماغ التي يجري وضعها على الرأس هذه الإشارات الكهربائية.
أثبت الباحثون منذ اكتشاف مخطط كهربية الدماغ أن النشاط العصبي يتذبذب بترددات محددة. لاحظ برغر في التسجيلات الأولية التي أجراها لمخطط كهربية الدماغ في عام 1924 أن النشاط التذبذبي الذي يمر بدورة تتكرر 8-12 مرة في الثانية؛ أي بتردد 8-12 هرتز، هو السائد، ويسمّي العلماء هذا النشاط "تذبذبات ألفا". حاول العلماء كثيراً اكتشاف سبب تفاوت النشاط الكهربائي للعصبونات والآلية الكامنة فيه منذ اكتشاف تذبذبات ألفا.
يعتقد العلماء أن التذبذبات العصبية مهمة للتواصل الفعال بين مناطق الدماغ المتخصصة. على سبيل المثال، تُعد تذبذبات ثيتا التي يتراوح ترددها بين 4 و8 هرتز مهمة للتواصل بين مناطق الدماغ التي تؤدي دوراً في تشفير الذاكرة واسترجاعها لدى الحيوانات والبشر.
تحقق الباحثون بعد ذلك من إمكانية تعديل التذبذبات العصبية وبالتالي التأثير في آلية تواصل الخلايا العصبية معاً. بيّنت الدراسات أن هناك العديد من الطرق السلوكية وغير الباضعة التي يمكن تطبيقها لتعديل التذبذبات العصبية وإحداث تغيّرات في الأداء الإدراكي. يمكن أن يؤدي الانخراط في أنشطة عقلية معينة إلى تحفيز التذبذبات العصبية التي لها الترددات نفسها التي تتمتع بها تلك الأنشطة العقلية. على سبيل المثال، اكتشف فريقي في الأبحاث التي أجراها أن التأمّل الذهني يمكن أن يزيد تذبذبات تردد ثيتا ويحسّن استرجاع الذاكرة.
يمكن استهداف الترددات محل الاهتمام بتطبيق طرق تحفيز الدماغ غير الباضعة. على سبيل المثال، توصلت الأبحاث التي يجريها فريقي حالياً إلى أن تحفيز الدماغ بالأمواج ذات تردد ثيتا يمكن أن يؤدي إلى تعزيز كفاءة استرجاع الذاكرة.
أدى تخطيط كهربية الدماغ أيضاً إلى اكتشافات مهمة حول الآلية التي يتبعها الدماغ لمعالجة المعلومات في العديد من المجالات الإدراكية الأخرى، مثل آلية إدراك الأشخاص للعالم حولهم وآلية تركيز انتباههم وآلية التواصل باستخدام اللغة وآلية معالجة المشاعر.
تشخيص الاضطرابات العقلية ومعالجتها
يستخدم العلماء مخطط كهربية الدماغ على نطاق واسع اليوم لتشخيص الصرع واضطرابات النوم وإرشاد علاجات اضطرابات الدماغ.
يستخدم العلماء مخطط كهربية الدماغ لتحديد إن كان بالإمكان تحسين الذاكرة من خلال طرق تحفيز الدماغ غير الباضعة. على الرغم من أن هذا المجال البحثي ما يزال في بداياته، فهناك بعض النتائج الواعدة. على سبيل المثال، اكتشف الباحثون في إحدى الدراسات أن تحفيز الدماغ غير الباضع بتردد غاما (25 هرتز) يحسّن الذاكرة ويعزز كفاءة النواقل العصبية لدى المصابين بمرض آلزهايمر.
يعتمد نوع جديد من تحفيز الدماغ غير الباضع يسميه العلماء "التداخل الزمني" على ترددين مرتفعين لتوليد نشاط عصبي يساوي الفرق بين ترددي التحفيز. تخترق الأمواج ذات الترددات المرتفعة الدماغ بفعالية أكبر وتصل إلى المنطقة المستهدفة. اختبر الباحثون مؤخراً هذه الطريقة على البشر واستخدموا أمواجاً بتردد 2,000 هرتز و2,005 هرتز لاستهداف منطقة دماغية تؤدي دوراً رئيسياً في الذاكرة، اسمها "الحصين"، بتردد ثيتا البالغ 5 هرتز. أدى ذلك إلى تحسّن في قدرة الدماغ على تذكّر اسم مرتبط بوجه.
على الرغم من أن هذه النتائج واعدة، فهناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث لفهم الدور الدقيق الذي تؤديه التذبذبات العصبية في الإدراك وتحديد إن كان سيؤدي تعديلها إلى تعزيز طويل المدى للوظائف الإدراكية.
اقرأ أيضاً: مكمل الألياف: الحل البسيط لتحسين وظائف الدماغ في 3 أشهر
مستقبل تخطيط كهربية الدماغ
تمثّل الذكرى المئوية لتخطيط كهربية الدماغ فرصة للنظر في المعلومات التي تعلمناها من هذا الاكتشاف عن وظائف الدماغ وإمكانات هذه التقنية في المستقبل.
كلّفت مجلة نيتشر هيومان بيهيفيور (Nature Human Behaviour) الباحثين بإجراء استطلاع طلبوا فيه من أكثر من 500 باحث يستخدمون تخطيط كهربية الدماغ في عملهم وضع تنبؤات حول مستقبل هذه التقنية. ما هي إمكانات هذه التقنية خلال القرن المقبل؟
يتوقع بعض الباحثين، وأنا منهم، أن الأطباء سيستخدمون تخطيط كهربية الدماغ لتشخيص اضطرابات الدماغ وتطوير علاجات مستهدفة لها. في حين يتوقع آخرون استخدام أجهزة تخطيط كهربية الدماغ المنخفضة التكلفة والقابلة للارتداء على نطاق واسع لتعزيز الوظائف الإدراكية في المنزل، أو إدماجها بسلاسة في تطبيقات الواقع الافتراضي. لا شك في أن إمكانات هذه التقنية كبيرة.