كيف تساعد التشريعات الحكومية على الأمن الدوائي ووصول الدواء إلى الجميع؟

10 دقيقة
ما هي المراحل التي يمر بها تطوير الأدوية قبل أن تصل إلى الصيدلية؟
حقوق الصورة: shutterstock.com/IM Imagery

تؤدي التشريعات الحكومية دوراً مهماً وحاسماً طوال مرحلة سلسلة الإمداد في الرعاية الصحية واكتشاف الأدوية؛ ابتداءً من البحث والابتكار وصولاً لبقية المراحل من اختبار وتحليل الدواء في المختبر وحتى مرحلة التجارب السريرية واعتماد الدواء من قِبل السلطات التشريعية. ويُعدّ قانون الملكية الفكرية وحماية براءات الاختراع من أهم التشريعات تاريخياً وتعود جذوره إلى القرن الرابع عشر. ففي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، مكَّن قانون الملكية الفكرية كبرى الشركات من ابتكار مركبات علاجية مهمة أسهمت في تحسين جودة الحياة للعديد من الأمراض. في السابق كانت معظم الأدوية تُباع دون وصفة طبية، ولكن في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى اكتُشِف البنسلين وكذلك الإنسولين وكان ينتج بكميات متوسطة. زاد الطلب وبشكلٍ كبير جداً على البنسلين والإنسولين خلال الحرب العالمية الثانية، ما دعا الحكومات والمنظمات الدولية للتعاون مع المصانع لإنتاج أكبر كمية ممكنة.

اقرأ أيضاً: ما تأثير المكونات الكيميائية في الأدوية وغيرها على نتائج بعض التحاليل الطبية؟

في فترة ما بعد الحرب، عملت الحكومات على إنشاء نظام صحي حكومي أسهم في خلق سوق مستقرة للأدوية الوصفية. وكانت فترة الأربعينيات بداية عصرٍ جديدٍ لاكتشاف العديد من الأدوية والمضادات الحيوية المهمة، واستمرت عملية تطوير واكتشاف مركبات وأدوية جديدة تتطور بمرور الوقت.

وقد أعطت تجربة بريطانيا في الخمسينيات تصوراً رائعاً عن التشريعات الحكومية وعلاقتها بالمصنّعين والشركات العملاقة، وحفّزت بريطانيا البحث والتطوير لمنتجات جديدة مع عوائد استثمار منطقية، ما أسهم في اكتشاف أدوية مهمة مثل الباراسيتامول والإيبوبروفين ومثبطات بيتا وبعض أدوية الضغط وكذلك منتجات تستهدف بعض الأورام.

ولكن فضيحة الثاليدوميد في الستينيات، وهو عقار أُعطي للنساء الحوامل وكانت نتيجته ولادة أطفال دون أطراف، غيّرت قوانين السوق والتشريعات، فقد دفعت المشرعين لاتخاذ إجراءات صارمة جداً وطلب العديد من الدراسات التي تثبت جودة وفاعلية وأمان الدواء قبل دخوله السوق. هذه الإجراءات أصبحت تمثّل حاجزاً قوياً ومعقداً للعديد من الشركات أمام دخولها السوق الدوائية، وتزايد تعقيد العملية، ما أسهم ببطء نزول منتجات وابتكارات جديدة للسوق.

قررت بعد ذلك شركات الأدوية الأميركية والأوروبية دخول عدد أكبر من الأسواق، ما أسهم بمعرفة الاحتياج العالمي وبالتالي استهداف هذه الاحتياجات بأبحاث تسهم في تطوير منتجات تستهدف الأمراض الأكثر انتشاراً. على سبيل المثال، وصلت مبيعات دواء ليبتور الذي أنتجته شركة فايزر إلى أكثر من 125 مليار دولار خلال 15 عاماً، ويليه العديد من الأدوية مثل دواء بروزاك من إنتاج شركة إيلي ليلي أوميبرازول من إنتاج شركة أسترازينيكا.

مراحل نزول الدواء إلى السوق

تُعدّ عملية اكتشاف الأدوية وتطويرها من أعقد وأصعب العمليات، حيث تتطلب صبراً طويلاً جداً (من 10-15 سنة)، وخبرات نوعية ومتخصصة.

تتطلب كذلك استثمارات عالية وجريئة قد تصل إلى أكثر من مليار دولار حتى تتم الموافقة عليه بالإضافة لملايين الدولارات، التي تُستثمر بعد الموافقة من الجهات الرقابية ونزول الدواء للأسواق.

بالإضافة للعوامل المذكورة كلّها، قد تتجاوز نسبة الفشل (المقصود بالفشل عدم وصول المُركّب إلى المراحل الأخيرة من عملية تطوير الدواء) نسبة النجاح. تشير بعض الإحصائيات إلى أن دواءً واحداً فقط من 5000 دواء يصل إلى المراحل النهائية لاختباره ومراجعته من قِبل الجهات التشريعية.

بعد الوقت الطويل جداً والمليارات المستثمرة، وبعد الحصول على الموافقة من الهيئات الرقابية والتشريعية على تسويق المنتج، تبدأ رحلة تسويقه وبيعه في الأسواق، وتكون الشركة المصنّعة والمسوقة مطالبة بإجراء أبحاث خلال السنوات الأولى من تسويق المنتج بعد اعتماد تسويقه، نظراً لقلة البيانات التي يُحصل عليها من التجارب السريرية مقارنة بعدد المستهلكين للمنتج في أرض الواقع.

اقرأ أيضاً: إليك الحالات التي ينبغي فيها تناول الأدوية المنومة لمحاربة الأرق

ما هي مراحل اكتشاف الدواء؟

يمر اكتشاف الدواء بخمس مراحل:

المرحلة الأولى (مرحلة اكتشاف الدواء)

في هذه المرحلة تتم محاولة اكتشاف المُركّب المناسب للمرض المستهدف، ويقضي أغلب الوقت في المعمل لتحديد المُركّبات التي لها خصائص فيزيائية وكيميائية معينة مناسبة للمرض المستهدف. تُستَخرج المُركّبات من نباتات معينة، ويوجد العديد من المركبات المُكتَشفة بالصدفة.

في هذه المرحلة يجري اختبار آلاف المُركّبات قبل اختيار مُركّب واعد. تستغرق هذه المرحلة من 3-6 سنوات.

خلال المرحلة الأولى، من المفترض الحصول على معلومات جيدة حول:

  1. حركية الدواء.
  2. آلية عمل الدواء.
  3. الجرعة المناسبة.
  4. الشكل الصيدلاني.
  5. التعارضات الدوائية.

المرحلة الثانية (ما قبل الأبحاث السريرية)

بعد تحديد المُركّب في المرحلة السابقة ومعرفة الخواص المختلفة، يجري في هذه المرحلة اختبار المُركّب خارج الجسم (يُضبط بطريقة معينة) للتأكد من تفاعله مع المستقبل المستهدف. وكذلك يُختبر المُركّب داخل الجسم (باستخدام فئران التجارب) للتأكد من وصول المُركّب للمستقبل المستهدف.

من المتوقع في هذه المرحلة تصنيع كميات كبيرة جداً من المركب، وبالتالي مهم جداً في هذه المرحلة اتباع العديد من المعايير ومن أهمها معايير الممارسات المخبرية الجيدة وكذلك أسس التصنيع الجيد.

المرحلة الثالثة (التجارب السريرية)

تُعدّ هذه المرحلة من أهم المراحل وأعلاها تكلفة وأكثرها أهمية، وفيها تُمنح الموافقة أو الرفض لإطلاق العقار للسوق بشكلٍ رسمي.

قبل بداية هذه المرحلة، تُراجع البيانات التي حصلت عليها من المراحل السابقة من قِبل الجهات التشريعية.

بعد مراجعة البيانات، تُمنح الموافقة أو الرفض أو يُطلب المزيد من البيانات للموافقة على إجراء تجربة سريرية.

توجد لدينا في المراحل السابقة بيانات متعلقة بأمان الدواء وكذلك توجد فرضية علمية تتعلق بارتباط المُركّب بالمستقبل المستهدف. في المرحلة الثالثة تُرفض الفرضية العلمية أو تُقبل.

قد تستغرق هذه المرحلة من 6-7 سنوات، وقد تتطلب وقتاً أطول خصوصاً في اختبار بعض المُركّبات التي تستهدف أمراضاً مزمنة وخطيرة مثل آلزهايمر.

يوجد العديد من اللوائح التي تنظّم الممارسات المتعلقة بالتجارب السريرية، ومن أهمها لائحة التطبيق السريري الجيد الصادرة عن مجلس التنسيق الدولي.

أهداف هذه المرحلة:

  • التقييم الدوائي للمنتج على الإنسان.
  • تقييم سلامة المنتج على الإنسان.
  • اكتشاف الفوائد العلاجية جميعها، وكذلك تحديد الجرعة المناسبة للإنسان.
  • معرفة الاستخدام العلاجي، وكذلك تأكيد الفاعلية العلاجية.

المرحلة الرابعة

مرحلة تقديم الملف للجهات الرقابية والتشريعية، بعد ذلك يصدر قرار الجهة إمّا بالموافقة وإمّا بالرفض وإمّا بطلب دراسات معينة ومتطلبات معينة بعد مراجعة الملف.

المرحلة الخامسة

في هذه المرحلة تُطلب أبحاث من الجهة المصنّعة والمسوقة للدواء للتأكد من سلامة المنتج وفاعليته بعد نزوله الأسواق.

هذه العملية الطويلة والشاقة تبرر للشركات احتكار بيع الدواء مدة 20 عاماً لتغطية التكاليف الباهظة، وكذلك تبرر ارتفاع أسعار الأدوية.

في عام 2018، أنفق الأميركيون 535 مليار دولار على الأدوية الوصفية بزيادة تُقدّر بـ 50% مقارنة بعام 2010.

دور الحكومات في هذه العملية مهم جداً وحاسم، في أميركا على سبيل المثال، تُدعم الصناعة الدوائية عن طريق فرض العديد من المميزات مثل الإعفاء الضريبي للبحث والتطوير، والخصم الضريبي مقابل نفقات التسويق والإعلان، والحصول على براءات الاختراع التي تجعل المصنع يحتكر بيع الدواء مدة 20 عاماً.

اقرأ أيضاً: دواء جديد يؤدي إلى أول حالة شفاء من سرطان دماغي معند لدى طفل بعمر 13 عاماً

لماذا يزداد عدد سنوات احتكار الأدوية أحياناً؟

يوجد بعض الممارسات والتي بدورها تسهم في زيادة عدد سنوات الاحتكار مثل:

تكتيك يُعرف باسم "الخضرة الدائمة" (Evergreening)

هذه الممارسة قائمة على عمل بعض التغيرات الطفيفة في التركيب الكيميائي للدواء ما يسهم في تمديد مدة براءة الاختراع. نُشِرت دراسة عام 2018 في أميركا تؤكد أن 78% من براءات الاختراع التي اكتسبت في العقد الماضي هي براءات اختراع لأدوية موجودة بالفعل!

ممارسة مشهورة باسم "التجميد" (Thickening)

تقدّم شركات الأدوية عند قرب انتهاء مدة الملكية الفكرية العديد من الطلبات لمكاتب الملكية الفكرية، ما يسهم بتأخير تقييم الدواء المنافس وبالتالي تطويل مدة براءة الاختراع وكسب المزيد من الوقت.

التجربة الأميركية في صناعة الأدوية

تشغل معضلة ارتفاع أسعار الأدوية في أميركا صُنّاع القرار وتضع الحكومة تحت ضغط كبير جداً، فقد بدأت إدارة الرئيس بايدن في ديسمبر/كانون الأول الماضي العمل بشكلٍ رسمي لمحاربة الارتفاع الباهظ في أسعار الأدوية. هذه المحاولة جاءت نتيجة لضغوطات شعبية تطالب بتخفيض أسعار الأدوية بعد أن وصلت إلى ارتفاع لا يطاق ولا يستطيع تحمله ذوو الدخل المتوسط والمحدود. تذكر بعض الإحصائيات أن 3 من كل 10 أشخاص أميركيين يتوقفون عن عملية شراء بعض الأدوية نظراً لعدم قدرتهم على الالتزام بالدفع.

سيُطبّق قانون March in Rights والذي تمت صياغته عام 1980 ولكن لم يستطع أي اتحاد فيدرالي تطبيقه طوال الأربعين عاماً الماضية. يخول هذا القانون بكل بساطة الاتحاد الفيدرالي بنشر نتائج براءة الاختراع لطرف ثالث ما يسهم في زيادة المنافسة وتخفيض الأسعار، وبالتالي وصول الدواء إلى المرضى بأسعار معقولة بدلاً من احتكار الدواء مدة 20 عاماً على الأقل من قِبل شركة معينة.

تعتبر الولايات المتحدة من الدول الرائدة في مجال البحث والتطوير في المستحضرات البيولوجية والصيدلانية، بل إن 50% من أعمال البحث والتطوير عالمياً تجري في أميركا، بسبب قوة قوانين الملكية الفكرية، وهي تمثّل بيئة ممتازة للمبتكرين والشركات تشجّعهم على المخاطرة وإجراء أبحاث قد تتحول إلى منتجات صيدلانية مهمة.

لكن يجري الآن جدل في الولايات المتحدة حول تطبيق قوانين مثل قانون March in Rights، بحجة أنه قد يؤدي إلى عدم تشجيع المبتكرين والشركات الكبيرة للاستثمار في هذا النوع من المنتجات والاتجاه إلى أسواق أخرى أكثر تحفيزاً، وبالتالي خسارة أميركا قيمتها كدولة رائدة في هذا المجال. لكن الارتفاع المبالغ فيه في الأسعار يضع صُنّاع القرار السياسي تحت ضغط كبير جداً لتطبيق مثل هذا النوع من الإجراءات.

يُذكر أن إدارتي الرئيسين ترامب وأوباما كان لهما رأي مختلف عن إدارة بايدن، وعملتا على اعتماد قوانين وتشريعات تمنع الحكومة من التدخل بناءً على معيار السعر فقط.

اقرأ أيضأً: زيباوند (Zepbound): دواء جديد لإنقاص الوزن ينال موافقة إدارة الغذاء والدواء الأميركية

تسهم التشريعات الحكومية الأميركية في السوق الدوائية في دعم البحث والتطوير والابتكار وحماية المبتكرين من خلال قوانين ملكية فكرية قوية، ولكن في الوقت نفسه تُثير تحفظ العديد من الباحثين والمفكرين.

على سبيل المثال، يتحدث الدكتور جويل ليكشين، وهو طبيب طوارئ وبروفيسور في كلية السياسات الصحية والإدارة في جامعة يورك، عن العلاقة بين شركات الأدوية الكبيرة والحكومات ودافع كل طرف للعمل وكيف أن السياسات المطبقة حالياً في كندا، وتنطبق على بقية الدول المتقدمة والمرجعية، تصبُ في صالح الشركات والمساهمين والمستثمرين بدلاً من مساهمتها الفعلية في خدمة المجتمع والصحة العامة.

تحدث الدكتور بكل وضوح وصراحة عن نموذج العمل الحالي وعن سبب وجود شركات الأدوية في المقام الأول، وهو بسبب التزامها مع المستثمرين والمساهمين لتحقيق أهدافها الاقتصادية نهاية السنة مثل أي شركة في أي قطاع آخر. وبالتالي، الشركات ملزمة بعمل كل ما هو قانوني من أجل تحقيق هذه الأهداف.

ومن ناحية أخرى، تهدف الشركات إلى تحسين الصحة العامة وتعتقد أن النجاح الاقتصادي الهائل الذي حُقِق في العقود الماضية يعكس تطور النظام الصحي والخدمات والمنتجات الصحية، وفي الوقت نفسه، تلتزم الجهات التشريعية المرجعية بتقييم الدواء قبل وبعد نزوله للسوق.

يعتقد الدكتور أن الليبرالية الجديدة والتي ظهرت في بداية الثمانينيات لها دور كبير في الوضع الحالي. يرتكز مفهوم الليبرالية الجديدة على دعم الصناعة وتقليل تدخل الحكومات عن طريق السماح للمصنع بوضع معاييره، ومن ثَمَّ تراقب الحكومة هذه المنتجات. وبالتالي فإن النظام منحازٌ للشركات بشكلٍ أساسي وجوهري. يعتقد الدكتور أن هذا الانحياز قد انعكس على تشريعات الجهات التنظيمية وضرب مثالاً بخدمات التقييم السريع للدواء وكيف أنها تصبُ في صالح الشركات وتجنب الشركات خسائر هائلة عن طريق تسريع عملية نزول الدواء في السوق.

تحدث الدكتور كذلك عن المشكلة المتعلقة بالبحث والتطوير، وكذلك حقوق الملكية الفكرية والمتمثلة بابتكار مُركّبات جديدة من قِبل شركة معينة، وبالتالي ضمان احتكار البيع مدة 20 سنة. المشكلة في هذا النموذج هو تركيز الشركات على ابتكار مُركّبات جديدة على حساب التركيز على مُركّبات تحمل قيمة علاجية أعلى. على سبيل المثال، في أميركا وتحديداً من عام 2002 حتى عام 2014، اعتُمِد 71 دواءً يستهدف الأورام الصلبة. المعيار كان قياس مدة البقاء على قيد الحياة دون تطور للورم والتي قُدِّرت بمدة تصل إلى شهرين ونصف (2.5)، كذلك قياس البقاء على قيد الحياة بشكلٍ عام وكان تقريباً شهرين فقط (2.1).

يعتقد الدكتور جويل أن المشكلة منهجية ومتعلقة بالنظام ككل متمثلاً بنظام الملكية الفكرية وعلاقة الجهات التشريعية بالشركات.

يتحدث كذلك الدكتور باول جورجينسن عن مساهمة شركات الأدوية الاقتصادية في الحملات الانتخابية الأميركية وتأثيرها في صُنّاع القرار الأميركي متمثلاً بمجلس الشيوخ من أجل ضمان آلية تسعير تضمن زيادة هامش الربح بشكلٍ كبير للصناعة، وأضاف كذلك أن السياسات الأميركية تخدم المصنّعين أكثر من خدمتها للصحة العامة وتوفير المال للمستهلكين.

يقول عالم السياسة شاشتنايدر إن الفاعلين السياسيين في أميركا يستخدمون المصطلحات التي تخدم مصلحتهم، وضرب مثالاً بشركات الأدوية واستخدامها مصطلحات مثل السوق الحرة والرأسمالية بدلاً من استخدام مصطلحات مثل الصحة العامة، والعدالة، والمساواة، والتي لا تسهم في تضخيم هامش الربح للصناعة.

أسهمت التجربة الأميركية بتحفيز البحث والتطوير، ولكن يوجد العديد من السلبيات الواضحة ومن أهمها ارتفاع الأسعار، ما يؤدي إلى عدم وصول الدواء للطبقة الفقيرة في الدول المتوسطة والفقيرة.

سلبيات التجربة الأميركية

أسهمت التجربة الأميركية في تطوير العديد من المُركّبات والأدوية في القرن الماضي وكانت رائدة في هذا المجال، لذا فإن الاستفادة من هذه التجربة مع الوعي والتيقظ لنقاط ضعف هذا النموذج قد تؤدي إلى تكرار تجربة أكثر نضجاً وتسهم في تحفيز أصحاب المصلحة جميعهم في المنظومة، بالإضافة إلى وصول دواء آمن وفعّال بجودة عالية للمرضى بأسعار معقولة تخدم الأطراف كافة.

السلبية الواضحة من هذه التجربة هي الارتفاع المبالغ فيه في أسعار الأدوية، ما يؤثّر سلباً في توفر ووصول الدواء لطبقات المجتمع عالمياً، وبالتالي الصحة العامة.

ما هي أهم الحلول لمشكلة ارتفاع أسعار الأدوية عالمياً؟

قدّم أستاذ الإدارة في هارفارد كاستوري رانجان نموذجَ عملٍ مبتكراً، يتضمن تمكين شركات الأدوية العملاقة من تحقيق ربح مع توفير الدواء للدول الفقيرة والمتوسطة الدخل.

هذا النموذج قائمٌ على استراتيجية تسعيرية تضع بعين الاعتبار نصيب الفرد من الدخل القومي، بالإضافة لعوامل أخرى، ويستهدف الطبقات الفقيرة من الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل، ما يحقق ربحية للشركات ويسهم في وصول الدواء إلى أكبر شريحة من المرضى.

تكمن فكرة البروفيسور رانجان في إمكانية تحقيق ربح معقول من الطبقة الفقيرة، فهذا الربح قد يُعتبر منخفضاً مقارنة بالدول الغنية والمتقدمة، ولكن المنافع المترتبة على وصول الدواء إلى هذه الطبقة تفوق مساوئ نسبة الربح المنخفضة لشركة ابتكرت الدواء واستثمرت الكثير من الجهد والوقت والمال في الاستثمار في البحث والتطوير والابتكار.

تجربة مصر عام 2012 تعتبر مثالاً رائعاً لنموذج العمل المذكور أعلاه.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تُبيّن أن أطباء َمصر القديمة ربما حاولوا علاج السرطان

التجربة المصرية عام 2012

واجهت مصر تحدياً كبيراً يتعلق بانتشار مرض التهاب الكبد سي عام 2008 والسنوات التي تلتها. كان معدل انتشار الفيروس يُصنَّف الأكثر عالمياً في تلك المرحلة.

في عام 2012، طُبِق بالفعل نموذج عمل الدكتور رانجان وتم التعاون بين شركة غايليد ساينسس (Gilead Sciences) والحكومة المصرية من أجل توفير الدواء. وعُقِدت في ذلك الوقت اجتماعات طارئة بين الشركة المالكة لبراءة الاختراع والحكومة المصرية والمصنّعين المحليين ودخل الدواء السوق المصرية.

وفي حديث شخصي مع الدكتور علي عوف، رئيس شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية في مصر، نتحدث فيه عن تجربة مصر عام 2012 مع دواء التهاب الكبد سي وقصة دخوله مصر.  تحدث الدكتور عن تحدي براءة الاختراع لمصر والذي بدوره قد يعوق عملية توفر الدواء من جهة، ومن جهة أخرى يعتبر انتشار المرض مهدداً كبيراً وقوياً للأمن القومي في مصر. ومع تطبيق نموذج عمل الدكتور رانجان، وصل المستحضر إلى أكثر من مليوني مواطن مصري بتكلفة زهيدة جداً ومعقولة على الحكومة المصرية والمواطن كذلك.

تعتمد العديد من الدول، بما فيها المملكة العربية السعودية، نظام التسعير المرجعي الدولي والذي يحتوي على العديد من المعايير والمعطيات لتحديد التسعيرة المحلية المناسبة. من أهم المتطلبات لتسجيل منتج صيدلاني في المملكة العربية السعودية إرفاق شهادة السعر والتي تتضمن أسعار دولة المنشأ والدول المرجعية.

وفي هذا المثال المهم تتأكد لنا أهمية ومركزية دور التشريعات والتنظيمات الحكومية في وضع اللوائح والأدلة الإرشادية ومراقبة السلوكيات السلبية التي قد تضر بعدالة المنافسة وتضر الصحة العامة كذلك.

في يناير/كانون الثاني 2024، أعلنت المملكة العربية السعودية إطلاق الاستراتيجية الوطنية للتقنية الحيوية والتي تهدف إلى جعل المملكة مركزاً إقليمياً رائداً في مجال التقنية الحيوية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بحلول عام 2030 وعالمياً بحلول عام 2040.

توطين صناعة اللقاحات والتصنيع الحيوي عن طريق زيادة القدرة التصنيعية ودعم البحث والتطوير والابتكار يعتبر من أهم التوجهات لهذه الاستراتيجية، بالإضافة إلى الاستفادة من علم الجينوم في الطب الدقيق وتشخيص الأمراض للوقاية والعلاج. الحد من الاعتماد على الأدوية المستوردة يعتبر كذلك مستهدفاً مهماً جداً.

الاستفادة من التجربة الأميركية كتجربة مرجعية في تنظيم العلاقة بين المشرع وبقية اللاعبين في القطاع مع تمكين أصحاب المصلحة كافة والممثلين بهيئة الغذاء والدواء، والهيئة السعودية للملكية الفكرية، الجامعات، والشركة الوطنية للشراء الموحد نوبكو، وشركات التأمين وبقية القطاعات التي تسهم في ميزانيات البحث والتطوير والابتكار، بالإضافة إلى العمل على استراتيجيات وتشريعات تحمي القطاع من التلاعب في الأسعار هو الخيار الأمثل لتنظيم العلاقة، ما يسهم في زيادة الأمن الدوائي ويخدم توجهات المملكة في قطاع الأدوية والتقنية الحيوية.