كتب شكسبير إن رائحة الورود جميلة بغض النظر عن اسمها، ولكن إذا تمكّنا من إزالة جزيء كيميائي واحد صغير من زهرتها فعلى الأرجح ستفقد عطرها، ربما بالكامل. بدأ البستانيون التجاريون في العقود الأخيرة بتربية أنواع من نبات الورد لها ألوان مختلفة، وتتمتع بمقاومة أكبر للحشرات، وتعيش فترة أطول في المزهريات، لكن كان لهذا التلاعب بالسلالات ثمن؛ إذ إن الزهور الأجمل شكلاً تفقد روائحها القوية.
المكونات المسؤولة عن الرائحة في الزهور
ما المكونات التي تحتاج إليها الورود لتنتج روائحها، والأهم من ذلك، كيف نستعيد هذه الروائح؟ حدد الباحثون في دراسة جديدة نُشرت بتاريخ 1 مايو/ أيار 2023 في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS) نوعاً بالغ الأهمية من الإنزيمات يحمل اسم سينثاز فارنزيل ثنائي الفوسفات (farnesyl diphosphate synthase)، أو سينثاز إف بي بي (اختصاراً)، وهو إنزيم ضروري لتحفيز التفاعل الكيميائي الذي يمنح الورود رائحتها المنعشة والزهرية (أي الروائح الناجمة عن المركبات العطرة التي تفرزها أنسجة الزهرة).
يمكن أن تساعد النتائج الجديدة في التوصل إلى طريقة للحصول على ورود أجمل وفاتنة أكثر، يمنح مركب كيميائي يحمل اسم جيرانيول (geraniol) الورود الرائحة الزكية التي نشمّها، تُشكّل الورود هذا المركب من خلال تفاعل كيميائي يتضمن إنزيم سينثاز إف بي بي بالإضافة إلى العديد من الإنزيمات الأخرى. يتضمن هذا التفاعل إنزيماً يحمل اسم الهيدرولاز إن يو دي إكس 1 (NUDX1 hydrolase)، وهو إنزيم يوجد في المنطقة الداخلية السائلة للخلايا النباتية، أو العصارة الخلوية، التي تتألف منها بتلات الورود. يجب أن يكون نشاط هذا الإنزيم عالياً للغاية حتى تتمكن الزهور من اكتساب رائحة زكية وقوية. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بوجود كمية كبيرة من مركّب يحمل اسم ثنائي فوسفات الجيرانيل (geranyl diphosphate)، أو جي بي بي (اختصاراً). يلتصق هذا المركب بإنزيم الهيدرولاز إن يو دي إكس 1 ويحفّزه على بدء نشاطه.
اقرأ أيضاً: فطريات تقتات على حرائق الغابات تثير فضول العلماء
مركب الجيرانيول
لكن حتى تنجح هذه العملية، يجب أن يكون الجزيء الملتصق قريباً من الإنزيم، وهذا ليس هو الحال في الورود. يقول عالم الكيمياء الحيوية النباتية في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية وكبير مؤلفي الدراسة الجديدة، بونوا بواشون (Benoît Boachon)، إن معظم النباتات تُخزّن مركب جي بي بي وإنزيم الهيدرولاز إن يو دي إكس 1 في منطقة أخرى تحمل اسم الصانِعات (البلاستيدات)، هذه العُضَيّات الخلويّة هي المواقع التي تحدث فيها عملية التركيب الضوئي. دفع ذلك بواشون وزملاءه لمحاولة اكتشاف الطريقة التي تحصل فيها الورود على مركب جي بي بي لتركيب الجيرانيول. يفترض بواشون أن مركب جي بي بي يمكن أن ينتقل بطريقة ما من الصانعات إلى العصارة الخلوية، أو أن الأزهار تشكّل مخزونها الخاص من مركب جي بي بي بطريقة أخرى.
لحل هذا اللغز النباتيّ، نظر مؤلفو الدراسة في التفاعلات الكيميائية الحيوية التي تحدث في مجموعة متنوعة من نباتات الورد الوردية اللون تحمل اسم الورد الصيني (Old Blush)، والاسم العلمي (Rosa chinensis). عزل الباحثون أجزاء مختلفة من النبات وعطّلوا المسارات الكيميائية المرتبطة بتركيب الجيرانيول أو إطلاقه. إذا فقدت الورود المعدّلة القدرة على تركيب الجيرانيول، أو إذا أنتجت كمية قليلة من هذا المركب، فسيمثّل ذلك دليلاً كبيراً بالنسبة للعلماء؛ إذ سيتمكنون عندها من اكتشاف مسار كيميائي يؤدي دوراً في إنتاج مركب جي بي بي. ومن ناحية أخرى، يمكن للباحثين استبعاد العمليات التي تُمكّن النبات من تركيب الجيرانيول بالمستويات الطبيعية.
اقرأ أيضاً: كيف استفاد شعب الأزتيك من الشمس لتطوير تقويم زراعي دقيق؟
دور إنزيم سينثاز إف بي بي
قادهم البحث لاكتشاف مسار كيميائي معين في العصارة الخلوية النباتية، وركّزوا على دور آخر غير معروف يؤديه إنزيم سينثاز إف بي بي؛ عندما استخدم الباحثون المثبطات لتعطيل قدرة النبات على تركيب هذا الإنزيم، انخفضت مستويات الجيرانيول.
وجد العلماء أن إنزيم سينثاز إف بي بي يسهم في إنتاج مركبين كيميائيين. يعلم علماء النبات من قبل أن هذا الإنزيم ينتج مادة كيميائية تتعلق بمركب جي بي بي تحمل اسم فارنزيل ثنائي الفوسفات، وهي من المركبات التي تمنح الورود روائحها الزكية، ولكن التحليل الكيميائي الحيوي الذي أجري في الدراسة الجديدة كشف أن هذا الإنزيم قادر على إنتاج مركب جي بي بي أيضاً. تقول مديرة مركز علم أحياء النبات في جامعة بوردو والمؤلفة المشاركة للدراسة الجديدة، ناتاليا دوداريفا (Natalia Dudareva)، إنه من المرجح أن الورود طوّرت القدرة على تركيب إنزيم سينثاز إف بي بي منذ زمن طويل حتى تتمكن من إنتاج مركب جي بي بي بسهولة أكبر. كشفت عمليات السلسلة البروتينية لهذا الإنزيم عن وجود نوعين من الأحماض الأمينية التي من المحتمل أنها طَفَرت بطريقة منحت الإنزيم القدرة على إنتاج مركب جي بي بي بدلاً من تحويل هذا المركب إلى مادة فارنزيل ثنائي الفوسفات الكيميائية فقط.
اقرأ أيضاً: هل تدخل الفيروسات السلسلة الغذائية كمغذيات لأحياء أخرى؟
تمثّلت الخطوة التالية في اكتشاف ما إذا كان إنزيم سينثاز إف بي بي قادراً على توليد تأثيرات مماثلة داخل النبات بشكل فوري. عدّل الباحثون أوراق نبتة التبغ وراثياً على نحو يضمن تركيب هذا الإنزيم وتوليد المسار الكيميائي الذي يُنتج الجيرانيول. وكما توقعوا، أنتجت مناطق أوراق التبغ التي تحتوي على هذا الإنزيم مركب جي بي بي وفارنزيل ثنائي الفوسفات.
يمكن أن يساعد فهم المكونات الأساسية في عملية إنتاج الروائح على منح الورود المزروعة تجارياً القدرة على إنتاج الروائح مجدداً. ويقول بواشون إنه من خلال عزل إنزيم سينثاز إف بي بي، يمكن بطرق استقلابية تجديد الروائح الزكية للورود التي فقدت روائحها المميزة مع الزمن.