دراسة جديدة تُبيّن أن الغربان قد تتمتع بقدرة متقدمة على تقدير الكميات

5 دقيقة
دراسة جديدة تُبيّن أن الغربان قد تتمتع بقدرة متقدمة على تقدير الكميات
هذه الدراسة الجديدة لغربان زاغ الجيف هي الأولى التي تبين بوضوح أن هناك نوعاً آخر غير البشر يستطيع ربط الأصوات الطوعية بفهم للكميات. سفين إريك أرنت/أرتيرا/مجموعة يونيفرسال إميدجيز عبر غيتي إميدجيز)

قبل أن يتعلم الأطفال الصغار إتقان العد الرمزي، الذي يشير فيه الرقم "واحد" إلى شيء واحد ويشير الرقم "اثنين" إلى ضعف ذلك، فإنهم يمرون بمرحلة نمو تسمى "مرحلة العد اللفظي". عندما يُسأل الطفل الصغير الذي يمر في هذه المرحلة عن عدد التفاحات في مجموعة مكونة من ثلاث، قد يقول "واحدة، واحدة، واحدة" أو "واحدة، اثنتان، ثلاث" أو "تفاحة، تفاحة، تفاحة"، وهذا نوع من العد الأولي. يدرك الأطفال أن هناك 3 تفاحات، لكنهم لم يكتسبوا بعد القدرة على التعبير عن هذا الرقم بالشكل المجرّد للرقم "ثلاثة" وحده.

في ضوء هذه الحقيقة، قررت عالمة البيولوجيا العصبية وباحثة ما بعد الدكتوراة في جامعة توبنغن في ألمانيا، ديانا لياو، أن تطرح السؤال البديهي الآتي: هل تستطيع الغربان فعل ذلك أيضاً؟ وفقاً لدراسة هي الأولى من نوعها نُشرت بتاريخ 23 مايو/أيار 2024 في مجلة ساينس (Science)، الجواب هو نعم. وفقاً للبحث الجديد، تستطيع الغربان من نوع زاغ الجيف التحكم في الأصوات التي تصدرها ومطابقة عدد النداءات مع إشارة ما، وهو سلوك يعد نوعاً من أنواع العد الأولي.

اقرأ أيضاً: مفاجأة: الببغاوات تجري مكالمات فيديو وتعزز مهاراتها الاجتماعية

الغربان تتحكم في الأصوات التي تصدرها

هذه الدراسة هي واحدة من دراسات عديدة تبين القدرات المعرفية التي تمتلكها الغرابيات (عائلة الطيور التي تشمل الغربان والغربان المألوفة وطيور العقعق وطيور القيق). تسهم الدراسة الجديدة أيضاً في مساعي كشف المنشأ التطوري لقدرة البشر على فهم الرياضيات. يستطيع العلماء التوصل إلى فهم أعمق لمنشأ قدرة البشر على الحساب وآلية اكتسابهم لهذه القدرة من خلال دراسة قدرات الحيوانات الأخرى وحدود هذه القدرات.

تقول أستاذة علم النفس في جامعة كارنيغي ميلون، جيسيكا كانتلون، التي تجري الأبحاث في مجال الاستدلال الكمي ولم تشارك في الدراسة الجديدة، لبوبيولار ساينس: "هذه دراسة رائعة حقاً". الارتباط بين الجهاز الصوتي والدماغ الرياضي لدى البشر هو جزء أساسي من حسّنا بالأرقام. تقول كانتلون: "عندما يبدأ البشر باستخدام الألفاظ لتمثيل الأشياء في العالم، يغير ذلك طريقة التفكير نوعاً ما، وهذه [هي الطريقة التي] تظهر وفقها القدرة على العد لدى البشر في مرحلة النمو وعلى مدار الزمن التطوري. لم يثبت العلماء أن هناك أي نوع آخر غير البشر قادر على ذلك"، حتى وقت نشر الدراسة الجديدة.

بيّنت الأبحاث السابقة، التي اعتمدت عادة على النقرات أو الضغط على الأزرار أو اختيار الطعام أو النقر على الشاشة أو حركات الرأس أو التأشير باليدين، أن الغربان والشمبانزي والقردة والببغاوات والجرذان ونحل العسل والدجاج وغيرها من الحيوانات تتمتع بمستوى معين من التفكير الكمي، ويشمل ذلك التمييز بين كميات مختلفة من الأشياء وإجراء العمليات الحسابية الأساسية وحتى تصوّر العدد صفر في حالات نادرة. لكن مستوى التحكم الصوتي لدى البشر فريد من نوعه بين الحيوانات. تقول كانتلون إنه حتى الرئيسيات الأخرى "غير ماهرة أبداً في إصدار أصوات تشبه أصوات اللغة البشرية. أعتقد أن العلماء يئسوا نوعاً ما من محاولة جعل الرئيسيات [تصدر الأصوات] في مهمات التفكير الكمي".

الغربان هي نوع واحد فقط في قائمة طويلة من الأنواع التي تصدر الأصوات في العالم. تقول لياو إن العلماء يعتقدون أن أغلبية نداءات الحيوانات غير إرادية وغريزية، على عكس الأصوات التي يصدرها البشر، وأنها مبرمجة عند الولادة وتحفّزها إشارات بيئية خارجية. على سبيل المثال، بيّنت الأبحاث التي أجريت على طيور القرقف أن هذه الطيور تضيف مقطع "دي" صوتي إلى نداءات الإنذار التي تطلقها عند وجود حيوانات مفترسة أكبر حجماً، لكن هذا التوجه لا يشير بالضرورة إلى أن هذه الطيور المغردة تقيس حجم المفترس حرفياً من خلال تغريداتها. بدلاً من ذلك، من المحتمل أن عدد المقاطع الصوتية هذه يقابل شدة الاستثارة الناجمة عن وجود حيوان مفترس، وأن المفترسات الأكبر أكثر خطورة. أرادت لياو التعمق في هذه الظاهرة في ظروف مضبوطة أكثر تستطيع هي وزملاؤها فيها الاستفادة من تجهيزات المختبر الاصطناعية لإزالة دور الخوف والاستثارة الغريزيين.

اقرأ أيضاً: العلماء يكتشفون نوعاً من الضفادع تصدر أصواتاً لا يستطيع البشر سماعها

فهم كمي للأشياء

هذه الدراسة الجديدة لغربان زاغ الجيف هي الأولى التي تبين بوضوح أن هناك نوعاً آخر غير البشر يستطيع ربط الأصوات الطوعية بفهم للكميات. يقول عالم الأعصاب في جامعة ترينتو في إيطاليا، جيورجيو فالورتيغارا، الذي ألّف أبحاثاً عن قدرة أسماك الدانيو المخططة والصيصان الحديثة الولادة على الحساب، إن تحكّم الغربان بأصواتها "ليس مثل إحصاء عدد النقرات"؛ إذ ينطوي تتبع الأصوات على "التوقيت الدقيق ويتطلب ذاكرة قوية وقدرة عالية على التخطيط. هذه قدرة معرفية متقدمة دون شك".

درّبت لياو وزملاؤها 3 من طيور زاغ الجيف على ربط أرقام عربية ملونة (1، 2، 3، 4) وإشارات سمعية محايدة (أي الأصوات التي لا علاقة لها بأي تهديدات أو فرائس طبيعية) بسلسلة متغيرة من الألفاظ المقابلة، وذلك لإثبات قدرات الغرابيات. تقول لياو إن العملية استغرقت أكثر من عام، وإن الباحثين أجروها غالباً من خلال التجربة والخطأ. عرض الباحثون لكل غراب رقماً على الشاشة أو صوتاً مسجلاً مسبّقاً ثم قدموا مكافأة طعام للطائر عندما أصدر عدداً مطابقاً من النداءات.

بمجرد اكتمال التدريب، اختُبرت الغربان في جلسات متكررة مدتها ساعة أو ساعتان. بدأ كل طائر متمركز أمام الشاشة التجارب من خلال نقر هدف محدد. بعد ذلك، ظهر رقم على الشاشة أو شُغلت إشارة صوتية استجابة للنقرات. أصدرت الغربان النداءات استجابة لذلك، ثم نقرت على "مفتاح إدخال" على الشاشة لتحديد أنها أنهت استجابتها. قدّم الباحثون للغربان دودة لذيذة من ديدان الوجبة أو بذور الطيور عندما أصدرت عدداً من النداءات متوافقاً مع الإشارة الرقمية.

بيّنت الغربان الثلاثة خلال 20 جلسة لكل غراب أنها تستطيع جعل نداءاتها متوافقة مع الإشارات بمعدل أعلى بكثير من أن يُفسّر على أنه صدفة. أصدرت الغربان في معظم الأحيان أصواتاً متوافقة مع الإشارات المعروضة؛ إذ بلغت دقتها في الاستجابة للرقم واحد 100%، وتجاوزت 60% في الاستجابة للرقم الثاني، وتجاوزت 50% في الاستجابة للرقم ثلاثة، وبلغت دقة الاستجابة للرقم أربعة نحو 40%.

تضع الغربان خطة صحيحة لكن تفشل في تطبيقها

اكتشف الباحثون باستخدام أداة تحليل حاسوبية أن النداءات الأولى في سلسلة من النداءات تختلف للغاية اعتماداً على عدد النداءات اللاحقة، ما يشير إلى أن الغربان تخطط لاستجابتها وتحدد عدد النداءات من أول نَعيق. أخيراً، قيّم الباحثون التجارب التي أخطأت فيها الغربان واكتشفوا أن الأخطاء تنقسم إلى فئتين، التلعثم (عندما تكرر الطيور نداءاتها) والتخطي (عندما تنسى إصدار نداء ما)، كما أشاروا إلى أن الغربان تخطئ لأنها تضع الخطة الصحيحة عموماً لكنها تفشل في تطبيقها في مرحلة ما من التجربة.

في المجمل، تشير التجارب في الدراسة الجديدة إلى أن غربان زاغ الجيف تتمتع بقدرة عالية على إصدار الأصوات أو الامتناع عن إصدارها استجابة للإشارات العشوائية؛ أي أنها تعد الأصوات بصوت عالٍ مثلما يفعل الأطفال الصغار.

مع ذلك، تعاني الدراسة بعض العيوب. تقول لياو إن المؤلفين لم يقيسوا الاستثارة مباشرة، ما يعني أنها قد تكون عاملاً مؤثراً في استجابة الطيور. تقول كانتلون إنه من المحتمل أيضاً أن الطيور كانت تتتبّع مدة النداءات وليس المقاطع الصوتية الدقيقة في استجاباتها. إذا صح ذلك، فقد لا تتمتع الغربان بالقدرة على فهم الارتباطات الفردية بين النداءات وعدد من الأشياء، ويمكن تفسير سلوكها بأنها تربط فترة زمنية طويلة بمحفز ما. هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث للإجابة عن هذا السؤال بدقة.

اقرأ أيضاً: ماذا يمكن أن تعلمنا الطيور المغرّدة عن الذكاء؟

تخطط لياو لإجراء تجارب إضافية لاستكشاف الطريقة التي تتبعها الغربان في استخدام الأرقام الصوتية في البرية، وهي تأمل أيضاً فحص أنظمة الدماغ الأساسية التي تجعل هذه القدرة المكتشفة حديثاً ممكنة. تقول كانتلون: "انفصلت سلالة الطيور عن سلالة الرئيسيات منذ أكثر من 300 مليون سنة. واكتسبت هذه الأخيرة بنى دماغية مختلفة للغاية. سيكون اكتشاف الطريقة التي تولّد وفقها الأدمغة المختلفة سلوكيات متشابهة مثيراً للاهتمام للغاية".

في المستقبل، يمكن أن يساعدنا ما نتعلمه عن الغربان على فهم البشر بعمق أكبر. فهم الرياضيات هو "سمة مميزة" للإدراك البشري، ولكن "البشر لم يخترعوا طرق تفكير فريدة تماماً"، بحسب تعبير كانتلون، التي تضيف قائلة: "هناك أساس تطوري لكل ما يجعلنا بشراً، والأمر نفسه ينطبق على الأنواع الأخرى. إذا درسنا الفروع المختلفة لشجرة التطور، يمكننا أن نكتشف منشأ قدرتنا على التفكير".

المحتوى محمي