“ميت مطلوب للشهادة”: كتاب شيّق يُطلعك على عالم الطب الشرعي

13 دقيقة
"ميت مطلوب للشهادة": كتاب شيّق يُطلعك على عالم الطب الشرعي
حقوق الصورة: shutterstock.com/Fer Gregory
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إذا كنت تشعر بالفضول لمعرفة حكايات أولئك الذين رحلوا عن عالمنا، اقرأ ما يقوله كتاب "ميت مطلوب للشهادة". ففي هذا الكتاب، تأخذنا كاتبته سمر عبد العظيم، العميدة الأكاديمية لكلية دبي الطبية للبنات وأستاذة الطب الشرعي وعلم السموم في جامعة عين شمس، في رحلة شيقة عبر دهاليز الطب الشرعي، حيث تصبح الجثث هي الراوية لحكاياتها كاشفةً عن أسرار الجرائم وخباياها.

يضم الكتاب 17 حكاية تُروى بلسان الضحايا أنفسهم، سواء كانوا قتلى أو قتلة أو حتى شهداء. وعلى عكس الكتب التي جاءت على لسان الطبيب الشرعي، يضع هذا الكتاب القتيل في مركز الأحداث ليكشف لنا من خلاله دوافع الجريمة وأسرارها.

إلى جانب التشريح الجسدي، يقدّم الكتاب تشريحاً نفسياً واجتماعياً للشخصيات يكشف عن صراعاتها، ويحرص على التركيز في الجانب التوعوي، حيث تبدأ كل حكاية بقول مأثور ثم تُذيَّل بالحقائق العلمية المتعلقة بالجريمة فيشرح في نهاية كل فصل تفاصيل علمية خاصة بكل واقعة جنائية، مثل الفرق بين الخنق والشنق وآثار الموت غرقاً وجرائم الشغف وغيرها، ما يثري تجربة القراءة.

وفي "مجرة" كان لنا هذا الحوار الغني بالمعلومات والتفاصيل المثيرة للاهتمام مع الكاتبة.

حقق كتابك الأخير "ميت مطلوب للشهادة" إقبالاً واسعاً ونجاحاً كبيراً، فما الهدف من الكتاب؟ هل هو كشف التضليل أو نشر الوعي أو تجربة في التوثيق أو تعريف بعلم الطب الشرعي مثلاً؟

هناك طريقتان للتعامل مع المعلومات الطبية الشرعية، إمّا أن نسرد الوقائع، وهذا ليس هدف الكتاب إطلاقاً، أو أن نفسح مجالاً للتفكير في المحتوى العلمي، بالأخص علم الطب الشرعي، وهذا كان الهدف من الكتاب. فالكتاب لا يسرد وقائع مع أن كثيراً من الحكايات مبنية على قضايا حقيقية، سواء حدثت داخل مصر أو في الوطن العربي أو خارجه، لكن تم تصريفها، فلا نستطيع أن نأخذ منها معلومة حقيقية كأنها معلومة إخبارية، لكن يمكن أن نأخذ منها حقيقة علمية من خلال سرد حدث قد يكون أقرب للناس وسمعوا عنه أو عما يشبهه في الأخبار، وذلك بهدف تسليط الضوء على بعض المعلومات أو الشواهد التي قد لا يلاحظها الشخص غير المتمرس، وهو مثل ما نفعله في قاعات الدراسة عند تدريس الطلبة.

اقرأ أيضاً: كيف يقدّر الطبيب الشرعي وقت الوفاة وسببها؟

لماذا صغتي حكايات الكتاب على لسان الجثمان؟ 

يتعلق الهدف من جعل الميت هو الراوي بنظرية من نظريات التواصل، ذكرتها في مقدمة الكتاب. تتحدث هذه النظرية عن لغة التواصل وتشرح كيفية وجود لغات كثيرة له قد تكون حولنا لكننا لا نعرفها. فمن منطلق الخيال، تصورنا أن هناك تواصلاً بين المتوفَّى والطبيب الشرعي قائماً على هذه النظرية. وبما أن هذا التواصل موجود كهوية، نتج عنه أن هذا الطبيب الشرعي يمتلك إمكانات خاصة غير موجودة عند أحد آخر سواه، حيث ينطلق الكتاب كله وفكرته بناءً على وجود لغة تواصل بين الطبيب الشرعي والمتوفَّى، كي نبين أن هناك لغة تختلف عن اللغات التي يتعامل معها الكثير من كُتّاب الطب الشرعي أو الكثير من كُتّاب الجريمة، وهي اللغة التي فيها شيء من الغرائبيات أو الماورائيات.

وأريد أن أبيّن أن حتى الدليل الطبي الشرعي يُعدّ لغة، يحدث من خلالها تواصل بين الميت والطبيب الشرعي، فاللغة ليست بالضرورة أن تكون منطوقة، لكنها لغة ترجمة الدليل الطبي الشرعي وفهمه، والتي تُميّز الطبيب الشرعي بإمكانات مختلفة عن بقية البشر، ما يمكّنه من التعامل مع المتوفَّى. 

ما الدور الذي يمكن أن تؤديه الكتابة في تعزيز الوعي العام بأهمية الطب الشرعي؟ وما أبرز التحديات التي واجهتك في هذا الصدد؟ 

تتلخص الفكرة كلها في تبسيط العلوم، ومثلما تعلمنا وكما نُعلِّم طلابنا والراغبين في العمل في مجال تبسيط العلوم، فالأهم هو فهم الجمهور المستهدف جيداً ومعرفة احتياجاته.

لذلك تجدون مجموعات كبيرة من المقاطع المرئية على الإنترنت، نخاطب فيها فئة معينة تفضّل التعلم السمعي والبصري في آنٍ واحد، وهناك فئة أخرى تُفضّل التعلم عن طريق القراءة وهي فئة كبيرة وواسعة في وطننا العربي.

تمثَّل التحدي في كيفية تحويل ذلك إلى شكلٍ مستساغٍ لهذه الفئة، لا يشعر فيه القارئ بأنه يقرأ مجرد قواعد أو يشكّل التواصل عبئاً عليه، لذلك كان لا بُدَّ من تقديم نوعٍ من المتعة، مثل التي تقدّمها الأحداث الخيالية، وهو للأسف ما وجدته في معظم الإصدارات الموجودة في ذلك الوقت وتتناول علم الطب الشرعي، حيث كانت تضم الكثير من الغرائبيات والأمور التي تبدو بعيدة عن الحقيقة.

فكان التحدي الحقيقي هو كيفية تقديم مادة علمية صحيحة تماماً ويستفيد منها القارئ ويحتفظ بجزءٍ من هذه المعلومات بعد الانتهاء من القراءة، وفي الوقت نفسه يستمتع دون أن يشعر بأنه يُلقن معلومات أو تُغيّر ثقافته، وهي معادلة صعبة للغاية.

ولأنني أكتب منذ فترة طويلة، ولدي مجموعة قصصية كبيرة ورواية منشورة ورواية أخرى في طريقها للنشر، وأعمال أخرى كثيرة، لذلك فكّرت في كيفية توظيف اللغة العربية الفصحى التي أعتز بها وأكتب بها منذ زمن، وتحويلها إلى شيء يتفاعل معه القارئ، بأن يضع نفسه مكان الضحية ويعيش التجربة، خاصة أن الموت شيء لا نفقه عنه الكثير ولا نعرف ماذا يحدث بعده، فوجود صوت يأتي من عالم ما بعد الموت دائماً ما يكون مثيراً للاهتمام.

بالإضافة إلى ذلك، جاءت فكرة العرض في مجموعة قصصية وقصص قصيرة لتخاطب القارئ الذي لا يرغب في قضاء وقتٍ طويلٍ في قراءة رواية من 300 صفحة مثلاً، لكنه يريد الحصول على معلومة سريعة وفي الوقت نفسه يشعر بمشاعر جياشة، لذلك يجب وصف الإحساس بقوة مع عرض المعلومة وسط هذا الإحساس.

ذكرتِ سابقاً أن الجثث يمكن أن تظل 30 سنة مثلاً دون تحلل، قد يعد البعض ذلك من الخوارق ويرجعه للماورائيات والكرامات لكن عند الطب الشرعي هناك تفسير ودليل، فما أبرز الأفكار المغلوطة المنتشرة حول مدة تحلل الجثث؟ وكيف يفسّرها الطب الشرعي؟

تطرقت إلى ذلك كثيراً في كتابي فتناولت معظم المفاهيم التي قد تكون مغلوطة، مثل أن الميت يتحرك أو أن الميت له صوت أو أنه يتكلم أو قد تُسمع أصوات في المشرحة أو أن الجثمان قد يجمَّد أو أنه قد يبقى كما هو دون تحلل عدة سنوات طويلة، مثل ما حدث مع الفنان عبد الحليم حافظ، فقد وُجِد الجثمان كما هو بالضبط، أو قد نجد الجثمان جالساً بدلاً من أن يكون مستلقياً. فمزجت هذه المفاهيم كلها التي قد تُفهم بشكلٍ خاطئ، وشرحت التفسير العلمي لها وضمنته في قلب القصة القصيرة في هامش بعد كل قصة بأسلوب مبسط، يمكن لأي شخص فهمه وربطه بالأحداث الجارية، وقد قوبل باستحسانٍ كبيرٍ من القرّاء.

على سبيل المثال، كتبت في هذا الهامش عن نظرية التصحر، التي تفيد بأنه من الممكن أن يستهلك جسمنا السوائل الموجودة فيه إذا تعرض لحرارة شديدة الارتفاع أو جفاف شديد جداً أو كليهما معاً، وبالتالي لا يحدث تعفن للجثة لأنه لم تعد هناك بكتيريا.

هل يمكن أن تعطينا مثالاً عن قضية عملتِ عليها في مجال الطب الشرعي وكانت تحدياً بالنسبة لك؟ خاصة عند التعامل مع حالات حساسة أو قضايا رأي عام، ما الذي جعلها فريدة؟ وما العوامل الرئيسية التي ساعدتك على حلها؟

هناك نوعان من الأطباء الشرعيين؛ الطبيب الشرعي الميداني الذي يتولى مباشرة القضايا، والطبيب الشرعي الأكاديمي، وهو مثلي، ونحن نعمل بشكلٍ أكبر كجهة استشارية للقضايا الطبية الشرعية.

فقد عملنا بشكلٍ استشاري على العديد من القضايا، وأجرينا تحليلات للنتائج وتفسيرها، وعملت على بعض القضايا بنفسي، وفي الوقت نفسه كان يجب أن نستخرج منها ما يفيد في تعليم الطلاب، لذلك قضيت وقتاً طويلاً في المشرحة لأنني كنت أعمل بشكلٍ مباشر مع الأطباء الشرعيين الميدانيين وكنت أتعلم منهم وبعد ذلك انتقلت إلى وظيفتي الأكاديمية الحالية.

بالطبع، هناك العديد من قضايا الرأي العام التي نعرفها لكن لا يمكنني ذكرها بطبيعة الحال، لأنه في الوقت الذي كنت أعمل فيه على هذه القضايا، كان يجب على الطبيب الشرعي أن يكون محلفاً، وبالتالي لا يمكنه أن يقول إنه عمل على قضية معينة. 

لكن هناك العديد من القضايا التي تكثر فيها الآراء في الإعلام، مثل قضية شخصية ما ألقت بنفسها من الدور العاشر، فهل هي انتحار أم أن أحداً ألقى بها لأنها كانت تكتب مذكراتها؟ والتفسير العلمي لهذه اللغة، أي لغة الدليل الجنائي، يختلف تماماً عن كل ما يمكن أن نسمعه على وسائل التواصل الاجتماعي أو في الإعلام.

لذلك أهتم في عملي دائماً برفع وعي المجتمع، حتى إذا عُرِضت معلومة علمية غير صحيحة في الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي أو الإعلام الموازي، يستطيع كل شخص استنتاج أن هذا العلم غير صحيح، فلا يتشبع بهذه الأفكار أو يتخذ موقفاً قبل الفهم، ودوري أن أحقق هذا الفهم على مستوى المجتمع بحيث يفكّر الإعلام ويتحرى الدقة قبل أن يطرح شيئاً على الناس قد يعتبرونه حقيقة.

على سبيل المثال، سمعنا الكثير من الأشياء وقت ثورة يناير/كانون الثاني، فقد تحدث البعض عن وجود قناصة وفي الوقت نفسه لم تكن البندقية المستخدمة آنذاك مخصصة للقنص. فالتفاصيل المغلوطة التي يتخيل الإعلام الموازي أننا لا نعرفها ولا نفهمها ويقدّمها لنا كأنها حقيقة ويشكّل بها رأياً عاماً يمكننا مواجهتها عندما نملك قدراً من العلم والثقافة المجتمعية التي تحمينا من تصديق الأكاذيب.

ذكرتِ أنه يمكن للطبيب الشرعي أن يحدد مثلاً نوع المسدس أو السلاح الذي أُطلقت منه الرصاصة والمسافة التي أطلقت منها، فهل يقتصر دور الطب الشرعي بشكلٍ عام على تشريح الجثمان ومعرفة سبب الوفاة وتوقيتها المقدر وحسب أمْ أنه يتعلق أيضاً بفحص مسرح الجريمة؟

يبدأ دور الطبيب الشرعي وينتهي بأمر من النيابة العامة عندما ترسل طلباً إلى الطب الشرعي. في بعض الأحيان، قد تطلب النيابة إعادة دراسة مسرح الجريمة، وهنا يأتي دور الطب الشرعي، وقد يُطلب من الطبيب الشرعي المباشرة الأولى في مسرح الجريمة، وهذا يحدث مثلاً عندما يُستخرج الجثمان من المياه وخوفاً من تعرضه للتعفن والتغيّر في أثناء نقله إلى المشرحة، قد يكون من الأفضل أن يأتي الطبيب الشرعي إلى مكان وجود الغريق ويبدأ مهامه من هناك حتى لا تُفقد بعض الأدلة الطبية الشرعية.

على الجانب الآخر، قد يشعر خبير الأدلة الجنائية بأن مسرح الجريمة قد تم العبث به لإعطاء انطباعات معينة للطبيب الشرعي، فيُطلب من الطبيب الشرعي إلقاء نظرة فاحصة مرة أخرى على مسرح الجريمة لكن هذا نادر الحدوث، فخبراء مسرح الجريمة على قدرٍ عالٍ من المهارة والذكاء.

كيف ترين مستقبل الطب الشرعي سواء في مصر أو في الوطن العربي عموماً، خاصة مع ثورة الذكاء الاصطناعي وتقنيات الرؤية الحاسوبية القائمة عليه؟ هل من الممكن أن يحلَّ محل الطبيب الشرعي أو حتى يقوم ببعض مهامه أو يُسرّع منها؟

أنا بصدد كتابة رواية جديدة تتناول موضوع الذكاء الاصطناعي ومستقبل الطب الشرعي. وفي الواقع، للذكاء الاصطناعي دورٌ يمكن أن يقوم به لكن ضمن حدود معينة، وقد ساعد الذكاء الاصطناعي كثيراً في مجال تحليل البيانات، لكن إذا اعتقدنا أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحلَّ محل العقل البشري في الاستنتاج، فسوف نضر أنفسنا والمجتمع والطب الشرعي.

لذلك من المستحيل أن يحلَّ الذكاء الاصطناعي محل الطب الشرعي تماماً، فالطب الشرعي، كما يوضحه كتابي الحالي، هو حوار بين ميت وطبيب، وليس مجرد مجموعة من البيانات أو المعلومات أو المشاهدات، بل هناك لغة تواصل، وإذا لم يكن الطبيب الشرعي مستعداً لعيش تجربة هذا التواصل، فلن يتمكن من استخلاص المعلومات من الجثة بقدر ما يستطيع زميله الطبيب الشرعي الآخر. وبالتالي، بما أن هناك فروقاً شخصية بين طبيب شرعي وآخر، فإن هذا الدور لن يقوم به الذكاء الاصطناعي.

مع العلم أن مستقبل تحليل البيانات يكمن فيما يُسمَّى بالبيانات الضخمة (Big Data)، فكلما زادت كمية البيانات المتوفرة لدينا في بنوك البيانات، تمكّنا من تحليل هذه البيانات وعلاقتها بالجثة الموجودة، وهذا يسهّل علينا اتخاذ قرارات أسرع، ويُمكّنا من القيام بما يُسمَّى بالتنميط الإجرامي، كلما أخذ الذكاء الاصطناعي أدواراً أعمق في التنبؤ.

يُعدُّ تحليل الحمض النووي (DNA) مهماً جداً في الطب الشرعي، وقد سمعنا عن قضايا كثيرة تمت فيها تبرئة المتهمين بعد قضاء سنوات طويلة في السجن. لكن هناك بعض الإشكالات التي تحيط بهذه التقنية، وربما تكون غير دقيقة تماماً.  فما رأيكِ في تقنية الحمض النووي تحديداً؟

يمكن الاعتماد على تحليل الحمض النووي (DNA) لدرجة كبيرة جداً تكاد تصل إلى اليقين، فهو دليل لا يقبل الشك، لكن كما تفضلتِ، هناك بعض المشكلات، ليست في تحليل الحمض النووي نفسه، لكن في تفسير نتائجه.

الأمر الثاني المهم هو جمع العينات، فقد يحدث تلوث في أثناء جمعها، لذلك يجب أن نضمن اتباع بروتوكولات دقيقة عند جمع عينات الحمض النووي، مثل التأكد من خلو الأكياس الورقية وأدوات المسح المستخدمة في جمع العينات من أي حمض نووي آخر تماماً، كي لا تصل عينات ملوثة إلى المختبر، وهذا يضع مسؤولية كبيرة على عاتق خبراء الأدلة الجنائية في أثناء جمع الأدلة، حيث يجب عليهم ضمان وصول عينات الحمض النووي إلى المختبر سليمة، ولدينا بروتوكولات دقيقة لضمان حدوث ذلك، كما أن الخبراء مدربون على القيام بذلك، فالمسألة لا تقبل أي اجتهادات أو طرق عشوائية، بل هناك وسائل محددة لجمع العينات وحفظها ونقلها، بحيث لا يحدث تلوث لعينات الحمض النووي.

كذلك يجب معرفة مصدر عينات الحمض النووي بدقة، وهذا يتطلب التصوير الدقيق لمسرح الجريمة وتحديد مكان العينة بدقة، فهل أُخِذت من جثمان المتوفَّى أمْ من ظرف موجود في مسرح الجريمة أمْ من أي مكانٍ آخر؟ يساعدنا هذا التصور على التأكد من أن عينة الحمض النووي تتوافق مع السيناريو الإجرامي الذي حدث في مسرح الجريمة. فنحن لا نذهب إلى مسرح الجريمة ونجمع عينات الحمض النووي من كل مكان، فهذا غير منطقي، وقد يرجع الحمض النووي لأحد الأقارب أو لعاملة نظافة أو أي شخصٍ آخر، لذلك يجب أن تكون هذه العينة خاصة بالجاني فقط. ومع ذلك، يُعدُّ تحليل الحمض النووي دليلاً قوياً جداً، وقد أسهم هذا الدليل في إعادة النظر في قضايا قديمة سواء كانت قضايا مفتوحة أو قضايا صدرت فيها أحكام على أشخاص أبرياء.

اقرأ أيضاً: كيف تساعد أدلة الحمض النووي على حل الجرائم؟

برأيكِ ما التقنية الجديدة التي حققت قفزة في مجال الطب الشرعي مثلما فعل الحمض النووي؟

في السابق، كانت التقنيات المستخدمة لاستخلاص (DNA) تتطلب عينات كبيرة جداً، إلى أن ظهرت تقنية تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR)، التي يسرت استخلاص الحمض النووي من عينات صغيرة جداً أو جافة أو حتى من عينات لا يمكن أخذ إلّا بضعة مليمترات منها، وقد كان ذلك تطوراً كبيراً في علم الجينات.

ومن العلوم المهمة أيضاً علم بقع الدم (Blood Splatter Analysis)، وهو العلم الذي يهتم بدراسة توزيع بقع الدم في مسرح الجريمة للاستدلال على كيفية وقوعها ومكان الجاني واتجاه الضربة، وهو علم دقيق يتطلب ذكاءً وفطنة ويمكن من خلاله استخلاص معلومات مهمة تساعد على حل القضايا.

كيف يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي مفيداً في هذا المجال؟

جدير بالذكر، أننا كنا نعتمد على قدراتنا العقلية في الحسابات حتى وقتٍ قريب، ثم ظهرت الآلة الحاسبة التي يستخدمها الطبيب الشرعي كذلك. فالعلم في تغير مستمر، وهناك أشياء كنا نُعلمها للطلاب في السابق مثل ضرورة حفظ بعض المعلومات، لكن لم يَعِد ذلك ضرورياً؛ فالمعلومة متوفرة وعلى الطالب أن يستنتج وحسب. فمثلاً، يحلل الذكاء الاصطناعي البيانات ويستخلص منها المعلومات ومن ثَمَّ نخرج باستنتاجات بناءً على هذه المعلومات، ما يساعدنا على رسم تصور للسيناريو الإجرامي.

هناك أيضاً دراسات بحثت مدى دقة البصمات على الرغم من حقيقة عدم وجود بصمتين متطابقتين، فهل الإشكالية تكمن في طريقة رفع البصمات أم ماذا؟

لا تكمن مشكلة البصمات في طريقة رفعها، بل في وجود قاعدة بيانات للمقارنة أمْ لا. فمن الممكن أن نرفع بصمات من مسرح الجريمة، لكن دون قاعدة بيانات، لن يمكننا معرفة صاحب هذه البصمات. لذلك، يُعدُّ وجود قاعدة بيانات للمعلومات أمراً بالغ الأهمية للاستفادة من البصمات المرفوعة وهذا يرجعنا مرة أخرى إلى مجال البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي.

يُرجى ملاحظة أن البصمات لا تقتصر على بصمات الأصابع فقط، بل تشمل بصمات الشفتين والوجه والقدم والأذن وغيرها، فلكل جزء من الجسم بصمة فريدة لا تتطابق مع أي بصمة أخرى. ويُعدُّ وجود قواعد البيانات، سواء في أميركا أو كندا أو أي مكانٍ آخر أمراً في غاية الأهمية لتحديد هوية الأشخاص، خاصة في ظل عالم مفتوح الحدود لم تعد فيه عوائق أمام حركة الأفراد بين الدول، فالمشكلة التي تواجهنا هي الحاجة إلى قواعد بيانات أكبر وأشمل.

فهل يمكن أن تؤخذ هذه البصمات عند الولادة مثلاً أو في أي وقت آخر وتكون بمثابة هوية للشخص مثل بطاقة الهوية أو شهادة الميلاد؟

نعم سيكون من الجيد لو أُخذت البصمات منذ الولادة، أو على مراحل متعددة، وبشكل دوري، مثلاً عند تجديد بطاقات الهوية.

ما التحسينات الأخرى التي يحتاج إليها الطب الشرعي؟ وترين أنها ضرورية لتطويره؟

أتمنى أن يهتم الطب الشرعي في مصر بشكلٍ خاص بوحدات الطب الشرعي السلوكي، وهي وحدات تعمل على ربط شكل الجريمة أو الإصابة بنوع الجاني وأسباب الإصابة. ورغم وجودها بشكلٍ بسيط في الوقت الحالي، فإننا بحاجة إلى زيادة الاهتمام بهذه الوحدات وتفعيل دورها المهم في التحقيقات الجنائية وتطويرها، خاصة مع ريادة الولايات المتحدة الأميركية في هذا المجال حالياً.

بصفتكِ أستاذة جامعية واستشارية في الطب الشرعي، أود أن أعرف منكِ أبرز التحديات الأخلاقية والقانونية التي تواجه هذا المجال، فمعظمنا يعرف مقولة "إكرام الميت دفنه" لذلك يتراجع أهل بعض الضحايا عن تشريح جثث ذويهم خوفاً من انتهاك حرمتهم، كما لو أن الطب الشرعي يهدر حق الميت، فما برأيكِ التحديات الأخلاقية والقانونية الأخرى التي قد تواجه مَن يمارس الطب الشرعي؟

لا تزال هذه التحديات المجتمعية موجودة بالفعل، مثل قضايا تصاريح الدفن، وحصول بعض الحالات على تصريح الدفن قبل وصول الطب الشرعي، وهذا يكثر حدوثه في المناطق النائية بسبب ضغوط الأهل، وكذلك في قضايا الثأر والنزاعات القبلية خاصة مع وجود عددٍ كبيرٍ من القتلى والجناة، وهنا يواجه الطب الشرعي إشكالية كبيرة في تحديد ما يُسمَّى بالعلاقة السببية؛ أي يجب على الطبيب الشرعي التأكد من أن هذا الجرح أو هذا الحدث الجنائي هو الذي تسبب في وفاة المجني عليه، لكن عندما يكون هناك عدد كبير من القتلى والجناة، تزداد صعوبة عمل الطبيب الشرعي.

هل يمكن أن يعجز الطبيب الشرعي عن تحديد سبب الوفاة ولماذا؟

لا يوجد شخص لا يواجه صعوبات في أي مهنة، إلّا أن ما يتميز به الطب الشرعي هو أنه في حال وجود قضية دون حل لكن حُفِظت أحرازها جيداً، فإننا لا نفقد الأمل في حلها، فقد يكشف الستار عن حلها بعد سنوات أو حتى عقود. وبالتالي، يمكن الحفاظ على حق الميت، فإن لم نصل إلى الجاني في وقتها، قد نصل إليه لاحقاً. لذلك عندما يسألني الناس عن سبب اختياري الطب الشرعي، أخبرهم أن الطبيب الشرعي يؤدي دوراً لا يمكن إغفاله ومؤثراً دائماً، مقارنة بالطبيب المعالج الذي قد يعجز عن مساعدة المريض في بعض الأحيان.

ما هو "التشريح السلبي" (Negative Autopsy)؟ وما دلالاته؟

يمكن القول إن الطب الشرعي هو أحد أذرع العدالة، فليس من الضروري أن ينكشف حل القضية عن طريق الطب الشرعي وحده، لكن قد يظهر هذا الحل من خلال ربط تقارير الطب الشرعي بالأدلة الأخرى الموجودة. وقد لا تحدد تقارير الطب الشرعي هوية الجاني، بل قد تكون نتيجة التشريح السلبية بحد ذاتها دليلاً يؤدي إلى الجاني.

فقد تحتاج النيابة إلى قرينة نفي، وهذا يعني أن نتيجة التشريح السلبية لا تشير بالضرورة إلى فشل الطب الشرعي، بل تعني أن النتائج التي توصل إليها الطب الشرعي هي عدم وجود أدلة معينة تثبت الجريمة. 

وتكمن المهارة في كيفية ربط نتيجة التشريح السلبية بتصور مسرح الجريمة للوصول إلى الجاني بشكلٍ قاطع.

في رأيكِ، ما دور المرأة في مجال الطب الشرعي؟ وما نصيحتكِ للنساء الراغبات في دراسة هذا العلم تحديداً؟ 

تتميز المرأة ببعض السمات التي قد تجعلها أكثر تفوقاً من الرجل في مجال الطب الشرعي، مثل قدرتها الفائقة على الملاحظة والتواصل، فعادة تستطيع المرأة رؤية الصورة الكاملة بشكلٍ أوسع من الرجل.

ورغم وجود اختلافات فردية بين الأشخاص، فإن المرأة تمتلك القدرة على رؤية الصورة الكبيرة، ولا تقتصر رؤيتها على التفاصيل الصغيرة المحدودة، وهذا يفيد كثيراً في تحليل الأدلة. ولدينا طبيبات شرعيات متميزات جداً في هذا المجال قد تعلمت منهن الكثير، وعلمتهن أيضاً.

الأمر الثاني المهم هو أن الطب الشرعي، كما اتفقنا، هو لغة تواصل وليس مجرد عملية حسابية، فيمكن القول إن للميت هالة في أثناء دخوله المشرحة ويمكن الشعور بها، وهذا الإحساس أقوى عند المرأة مقارنة بالرجل.

اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تقلب المفاهيم حول دور النساء في المجتمعات عبر التاريخ

من المؤكد أن العمل يؤثّر في شخصية الإنسان ويعلمه أشياء جديدة ويؤثّر في رؤيته للأمور، فكيف أثّر هذا المجال في حياتكِ؟ وما الدروس التي تعلمتها من هذه المهنة؟ 

تعلمتُ أن الإنسان يستمر في التعلم من المهد إلى اللحد وأن باستطاعتنا التعلم من أضعف الناس وأصغرهم سناً مثلما نتعلم من أقوى الناس وأكثرهم تميزاً. كما أن كل معلومة وقرينة تُعدُّ حقيقة، وتكمن الصعوبة في ملاحظتها والوصول إليها، ولتحقيق ذلك يجب أن تكون حواسنا ومشاعرنا كلها متيقظة ومنخرطة في أثناء العمل على أي حالة، حتى خلال قراءة التقرير الطبي الشرعي، لكي نصل إلى إحساس الميت، وهذا ليس بالأمر السهل، بل يتطلب منا أن نعمل حواسنا كلها طوال الوقت كي نتميز، كما الحال في أي مهنة أخرى.

فهناك فرق كبير بين ضابط الشرطة الذي يؤدي واجبه كإجراء روتيني وبين ضابط الشرطة الذي ينخرط بمشاعره وإحساسه في القضية التي يتعامل معها، وهو الأمر نفسه بالنسبة للمحامي والطبيب الشرعي.

وفي النهاية، أتمنى أن يستمر قرّاء مجرة جميعهم في توسيع مداركهم والتعرف عن قرب إلى علم الطب الشرعي، ليس بالضرورة للعمل أطباء شرعيين، لكن ليتجنبوا خداعهم وحتى تتكون لدينا مناعة ووعي مجتمعي لا يُسمح فيه لأحد بالتلاعب في الحقائق، فيجب أن يكون لكل واحد منا عقله المستقل الذي يأتي من توسيع مداركنا في علوم ليست من تخصصنا، ومن بينها علم الطب الشرعي.