في إحدى أمسيات خريف عام 2022، كان العلماء في مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جونز هوبكنز ينجزون المراحل النهائية في إحدى مهمات الدفاع الكوكبي. بينما كان أحد قادة الفريق، آندي رِفكن، يستعد للظهور في حدث البث المباشر للتجربة الذي أجرته وكالة ناسا، نشر أحد زملائه صورة لزوج من الكويكبات التُقطت على بعد نحو 11 مليون كيلومتر عن الأرض، وهما ديديموس الذي يبلغ قطره 0.8 من الكيلومتر وكويكب ديمورفوس الأصغر الذي يدور حوله.
يتذكّر رفكن قائلاً: "تمكّنا من رؤية ديديموس وهذه النقطة الصغيرة في الموقع الذي توقعنا أن يوجد فيه ديمورفوس". انضم رفكن بعد المقابلة إلى حشد من العلماء والضيوف لمشاهدة خاتمة المهمة على عدة شاشات كبيرة. اقتربت مركبة فضائية من ديمورفوس وصورت سطحه الصخري بتفصيل متزايد الدقة ضمن مهمة حرف الكويكبات التي تحمل اسم مهمة اختبار إعادة توجيه الكويكب المزدوجة، مهمة دارت (DART). ثم في الساعة 7:14 مساءً، اصطدمت المركبة الفضائية التي تزن نحو 589 كيلوغراماً بالكويكب. نشر أعضاء فريق المهمة في كينيا وجنوب إفريقيا في غضون دقائق قليلة صوراً من تلسكوباتهم تظهر عموداً ساطعاً من الحطام. واصل الباحثون في الأيام التالية مراقبة سحابة الغبار واكتشفوا أنها أخذت مجموعة متنوعة من الأشكال، مثل التكتلات واللوالب وشكلي ذيلين يشبهان المذنب. حسب الباحثون أيضاً أن الاصطدام أدى إلى إبطاء سرعة دوران ديمورفوس حول ديديموس بنحو 0.25 من السنتيمتر في الثانية، وهو إنجاز يثبت أن المركبات الفضائية، التي تسمى أيضاً المركبات المصادِمة الحركية، قادرة على استهداف كويكب وحرف مداره بعيداً عن الأرض.
اقرأ أيضاً: 5 رؤى مختلفة قدمتها مهمة «دارت» لعلماء الفلك
المرحلة النهائية من الدفاع الكوكبي
قال عالم الكواكب في مختبر المهمة، رون بالوز، إن ما نراه غالباً في الأفلام هو "نوع من الإجراءات يعد بمثابة الملاذ الأخير"، ونحب أن نطلق عليه اسم 'المرحلة النهائية من الدفاع الكوكبي'"، وأضاف قائلاً إنه إذا كان رصد الأجسام الخطيرة قبل سنوات من اقترابها من الأرض ممكناً، فمن الممكن استخدام تقنيات مختلفة عما نراه في الأفلام، مثل المصادِمات الحركية. إذا كان حرف مسار هذه الأجسام الخطيرة مثل الكويكبات والمذنبات ضرورياً، يجب على العلماء تغيير سرعتها بمقدار يكفي لمنعها من الاصطدام بالأرض في أثناء دورانها حول الشمس.
قال رفكن إن هذا يتطلب تأخير وقت الوصول بمقدار 7 دقائق على الأقل، وإذا كان من المتوقع أن يصطدم جسم بحجم ديمورفوس بالأرض بعد 67 عاماً من الآن مثلاً، فإن الانخفاض في السرعة الناجم عن اصطدام مركبة مهمة دارت سيكون كافياً بالكاد لتحقيق التأخير هذا. إذا كانت المهلة الزمنية أقل، يمكن أن يتخذ الباحثون إجراءات متعددة معاً مثل إجراء عدة عمليات لحرف المسار واستخدام مركبات فضائية أكبر وزيادة سرعة المركبات عند الاصطدام، وذلك اعتماداً على الجسم الخطير المعني. قال رفكن: "صُمّمت مهمة دارت للتحقق من فعالية تقنية معينة، وستتطلب الحالات الأخرى تعديل المهمة دون شك". يستخدم الباحثون بيانات مهمة دارت وتجارب ذات نطاق أضيق للتنبؤ بمقدار الانحراف بالاستفادة من عمليات المحاكاة الحاسوبية.
يركز العلماء أيضاً على نوع من الكويكبات يبدو أن ديمورفوس ينتمي إليه، ويطلقون عليه اسم "كومة الركام" لأنهم يعتقدون أن الأجسام من هذا النوع تتكون من تكتلات صخور عديدة. في الواقع، يعتقد العلماء أن أغلبية الكويكبات التي تساوي أحجامها حجم ديمورفوس أو تتجاوزه هي أكوام من الركام. سيصبح العلماء قادرين على وضع تنبؤات أدق حول حرف الكويكبات أو المذنبات عن مساراتها مع استمرارهم في تعلّم المزيد عن أكوام الركام. ستصل مركبة مهمة جديدة إلى نظام ديديموس وديمورفوس في عام 2026 لجمع المزيد من البيانات بهدف ضبط النماذج الحاسوبية بدقة. يحاول الباحثون في غضون ذلك جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الحالة غير المرغوبة التي قد يكتشفون فيها أن أحد الكويكبات أو المذنبات يمثّل تهديداً للأرض، التي ستكون الاستجابة الأسرع فيها ضرورية.
اقرأ أيضاً: كيف غيّر اصطدام مركبة دارت كويكب ديمورفوس وما تأثيره على الدراسات المستقبلية؟
تفكيك أكوان الركام أسهل من تفكيك الكويكبات لهذا السبب
اشتبه العلماء أول مرة في أن العديد من الكويكبات عبارة عن أكوام من الركام منذ نحو 50 عاماً. بيّنت النماذج التي طورها هؤلاء أن اصطدام الكويكبات الأكبر حجماً بعضها ببعض يمكن أن يؤدي إلى إطلاق الشظايا التي تتجمع مشكّلة أجساماً جديدة.
مع ذلك، لم يرصد العلماء أول كومة من الركام إلا في عام 2005، عندما اقتربت مركبة فضائية من الكويكب إيتوكاوا وصورته. ثم في عام 2018، رصد العلماء كويكباً آخر يحمل اسم "ريوغو" (Ryugu)، ورصدوا أيضاً في وقت لاحق من العام نفسه كويكباً آخر يحمل اسم "بينو" (Bennu). بيّنت كاميرا مهمة دارت أيضاً أن ديديموس وديمورفوس قد ينتميان إلى النوع نفسه من الكويكبات. قال عالم الكواكب في معهد ساوث ويست للأبحاث في مدينة بولدر في ولاية كولورادو الأميركية، ويليام بوتكي: "توصيف أكوام الركام مختلف تماماً عن رصد كتل تشبه مجموعة من الصخور الملقاة من شاحنة من كثب".
يتوقع العلماء أن أكوام الركام تحتوي على الكثير من الفراغات بين صخورها. وهم يعتقدون أن هذه الأكوام يرتبط بعضها ببعض بقوى ضعيفة للغاية أغلبيتها من قوى الجاذبية، ما يعني أنها يمكن أن تتفكك بسهولة مقارنة بالكويكبات التي تتألف من صخرة واحدة. كان هذا واضحاً في حالة ديمورفوس؛ إذ نقّبت مركبة دارت على ما يقدّر بعشرة آلاف طن من المواد. أدى عمود الدخان الناجم عن اصطدام المركبة بديمورفوس دور محرك صاروخي ولّد دفعة في الاتجاه المعاكس لحركته، ما أدى إلى إبطائه. لذلك، على الرغم من أن الفراغات في الكويكب ربما امتصت القليل من الطاقة الناجمة عن اصطدام مركبة دارت، تسبب انفجار الحطام بازدياد مقدار انحراف الكويكب عن مداره؛ إذ تشير التقديرات إلى أن مقدار الانحراف الإضافي يتراوح بين نحو ضعفين إلى خمسة أضعاف من الانحراف الناجم عن اصطدام المركبة الفضائية وحدها.
اقرأ أيضاً: كيف ستؤثّر اصطدامات الكويكبات في الرحلات المستقبلية إلى المريخ؟
تقنية الاصطدام قد لا تكون الحل الأمثل لحرف مسارات الكويكبات
تقول عالمة الكواكب في جامعة بيرن في سويسرا، سابينا رادوكان، إنه يجب توخي الحذر في الحالات التي تتطلب استخدام المصادمات الحركية لحرف مسارات أكوام الركام الصغيرة. استخدمت رادوكان وفريقها نموذجاً حاسوبياً لتطبيق نتائج اصطدام مركبة دارت على مجموعة متنوعة من أكوام الركام، وهي أول مرة يجري فيها مثل هذا البحث. بيّنت النتائج، التي نُشرت في مجلة علوم الكواكب (Planetary Science Journal)، أنه إذا اصطدمت مركبة فضائية بحجم مركبة دارت بكومة ركام يقل قطرها عن 80 متراً بالسرعة التي اصطدمت فيها دارت بديمورفوس، نحو 6 كيلومترات في الثانية، فستحطم هذه المركبة كومة الركام إلى العديد من القطع.
يمكن أن يصطدم بعض الصخور الناجمة عن ذلك بالأرض، ما قد يتسبب بوقوع إصابات وبالأضرار. قالت رادوكان في رسالة عبر البريد الإلكتروني حول هذا الموضوع إنه على الرغم من نجاح مهمة دارت، قد لا يكون تطبيق آليات مشابهة على الكويكبات جميعها هو الحل الأمثل دائماً. أضافت رادوكان قائلة إنه بدلاً من ذلك، قد يكون من الضروري تعديل حجم المركبة الفضائية أو سرعتها لحرف الكويكب عن مساره بنجاح.
قد ينطبق خطر الانقسام المحتمل للمواد الناجم عن أحداث الاصطدام على المذنبات أيضاً. تشبه هذه الأجسام الكويكبات، لكنها تحتوي على أشكال الجليد مثل الجليد المائي وجليد ثنائي أوكسيد الكربون. عندما يمر مذنّب بالقرب من الشمس، يتحول هذا الجليد إلى غاز قد يؤدي دور معزز صاروخي يسرّع المذنب. بالتالي، إذا تمثّل هدف الباحثين في حرف مذنب عن مسار اصطدامه بالأرض، يجب أن يأخذوا في الاعتبار إمكانية أنه يحتوي على جليد مكشوف أو مدفون قد يغيّر سرعته ويولد الحاجة إلى إجراء أكثر من عملية حرف واحدة. قال رفكن إن اصطدام المذنبات بالأرض نادر نسبياً مقارنة باصطدام الكويكبات، ولكن هناك "بالتأكيد الكثير من الأجسام التي يجب تتبعها". ما يعقّد المسألة أكثر هو أن بعض الأجسام التي صُنّفت على أنها كويكبات قد يحتوي على الجليد المدفون. قال بوتكي: "يصبح تحديد محتوى الكويكبات أصعب، ورصدنا بعض الكويكبات التي لها ذيول"، مثل تلك التي تتمتع بها المذنبات.
مهمة هيرا المنتَظرة وخطر اصطدام الكويكب بينو
ينتظر العلماء أواخر عام 2026 بفارغ الصبر، عندما ستصل مركبة فضائية تسمى "هيرا" (Hera) إلى نظام ديديموس الكويكبي، ضمن مهمة دفاع كوكبي تقودها وكالة الفضاء الأوروبية بالتعاون مع وكالة استكشاف الفضاء اليابانية. سيُطلق قمران اصطناعيان أصغر حجماً في النظام، وسيستخدم العلماء المركبة وهذين القمرين الاصطناعيين لدراسة زوج الكويكبات من كثب. يتطلع الباحثون على وجه الخصوص إلى قياس كتلة ديمورفوس، ما سيتيح لهم تدقيق تقديراتهم لمقدار الانحراف الذي ولّده اصطدام مركبة دارت وانفجار الحطام المنبعث الناجم عنه. ستجري مركبة هيرا والقمران الاصطناعيان أيضاً قياسات ستمكن العلماء من حساب كثافة ديمورفوس وصلابته، وهي قياسات يمكن استخدامها في تطوير نماذج الاصطدامات الحاسوبية.
ستتيح مهمة هيرا للعلماء أيضاً تحديد تأثير مهمة دارت في شكل ديمورفوس. تشير القياسات الأولية إلى أن الكويكب ضعيف للغاية لدرجة أن الاصطدام غيّر شكله بدلاً من تشكيل حفرة على سطحه. قالت رادوكان: "أنا متحمسة للغاية للاطلاع على نتائج الاصطدام ومعرفة إن تسبب بتشكّل فوهة صدمية أو لا".
ربما أدى تغيّر شكل ديمورفوس إلى تغيّر مداره حول ديديموس. ستتيح مركبة هيرا للعلماء التحقق من ذلك، ما سيساعدهم على التوصل إلى فهم أعمق لتأثير الاصطدامات الحركية في الكويكبات التي يدور حولها قمر واحد أو أكثر. يقدّر العلماء أن نحو 16% من الكويكبات القريبة من الأرض التي يزيد قطرها على نحو 198 متراً تنتمي إلى نظام ثنائي. يعتقد العلماء أن الأرض شهدت حدث اصطدام مزدوج قبل 458 مليون سنة تسبب في تشكّل فوهتي لوكني (Lockne) ومولينغن (Målingen) في السويد.
ستقيس هيرا والقمران الاصطناعيان أيضاً الخصائص المادية لديديموس، ما سيساعد العلماء على تعميق فهمهم لأكوام الركام وعمليات حرف مسارات الأجسام الفضائية. قال رفكن إن مركبة دارت لم توفر سوى نظرة سريعة لديديموس بينما تجاوزته بسرعة. يعمل الباحثون حالياً على تحليل عينّات من سطح الكويكب بينو أعادتها مركبة أوسايرس ريكس (OSIRIS-REx) التابعة لوكالة ناسا إلى الأرض في خريف عام 2023. ستساعد النتائج الباحثين على فهم الخصائص المادية للكويكب بعمق أكبر. يُعد كويكب بينو الذي يبلغ قطره نحو 487 متراً أكثر الأجسام المعروفة خطورة (اعتباراً من 14 مايو/أيار 2024)؛ إذ يساوي احتمال اصطدامه بالأرض في 24 سبتمبر/أيلول 2182 0.037%. أشار بلوز إلى أن الانفجار الناجم عن اصطدام كويكب مثل بينو، أو أمواج التسونامي الناجمة عنه، يمكن أن يتسبب بوفيات وأضرار على المستوى الإقليمي أو القاري. وأضاف قائلاً إنه إذا ظل بينو يشكل خطراً واستنتج العلماء أن هناك ضرورة لحرفه عن مساره، فسيتطلب ذلك عدة اصطدامات حركية بسبب حجمه الكبير.
اقرأ أيضاً: حوادث الاصطدام المتعمدة وغير المتعمدة توفر معلومات مهمة عن الفضاء
ستكون عمليات الرصد والقياسات التي أجرتها أوسايرس ريكس لكويكب بينو من كثب، التي استمرت حتى عام 2021، إلى جانب نتائج تحليل العينات، مهمة للغاية للتخطيط لمهمات الاصطدام الحركي بهذا الكويكب، وذلك إن كانت هذه المهمات ضرورية. يمكن أيضاً التخطيط لمهمات إضافية لدراسة الكويكب مجدداً أو حتى جمع المزيد من العينات، وذلك بهدف إثراء نماذج الاصطدامات الحاسوبية أكثر. اكتشاف التهديدات المحتملة للأرض ليس خبراً ساراً أبداً، لكن المعرفة المسبّقة باحتمالية هذه الأحداث على الأقل تتيح للعلماء اتخاذ الإجراءات اللازمة، على عكس بعض الأحداث الطبيعية الخطيرة التي تقع دون سابق إنذار. قال بالوز: "يجب أن ندرك أن أحداث الاصطدام أثّرت في الأرض في الماضي، وأن احتمال وقوعها في المستقبل ليس معدوماً. يجب أيضاً أن يعلم العوام أن العلماء يدرسون هذا الجانب من تفاعل البشر مع الفضاء".