أجرى الباحث السعودي المبتعث إلى جامعة سيدني، محمد العرابي، دراسة جديدة نشرتها مجلة الكبد العالمية (Hepatology International)، كشفت سبب زيادة الوفيات جراء الإصابة بالكبد الدهني عند الأشخاص النحيلين. تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها تُسلّط الضوء على لغز طبي، فمعدلات الوفيات لدى المصابين بالكبد الدهني من النحفاء أعلى من نظرائهم البدناء الذين يعانون المرض ذاته.
وفقاً للصورة السائدة، تزيد البدانة خطر الوفاة، وتقلل متوسط العمر المتوقع، ما يُثير تساؤلات حول البدانة، وعلاقتها بطول العمر أو قصره. في هذا المقال، نتناول الأدلة المختلفة حول هذه المسألة.
اقرأ أيضاً: هل تُفرِّق البدانة بين الذكر والأنثى؟ بحث جديد يشير إلى أن للجنس والعمر دوراً في زيادة الوزن
قصر التيلوميرات يزيد معدل الوفيات
يقول العرابي إن طول التيلومير في الكروموسومات، والذي يُعدّ مؤشراً على الشيخوخة، سبب رئيسي في زيادة الوفيات عند المصابين بالكبد الدهني من النحفاء. ويوضح أن "طول التيلومير في الكروموسومات عند النحفاء المصابين بالكبد الدهني أقصر بكثير من نظرائهم البدناء، ما يشير إلى أنهم أكثر عرضة للوفاة". تفتح الدراسة آفاقاً جديدة لفهم الكبد الدهني، خاصة لوجود نسبة عالية من النحفاء المصابين به، حيث لا يزال سبب ارتفاع معدلات الوفيات لديهم على الرغم من تمتّعهم بمعدلات أيض أعلى غير مفهوم على نحو كامل، وقد يرجع جزئياً إلى تأخر تشخيص هؤلاء الأشخاص به، كونه يرتبط بصفة أكبر بالأشخاص البدناء، والمصابين بالسكري من النوع الثاني.
هل تزيد البدانة العمر أم تنقصه؟
تفاجأت الأستاذة المساعدة في وحدة العلوم الكمية وطب الأطفال بجامعة ستانفورد، مايا ماثور Maya Mathur، عندما علمت أن هناك أدلة على أن متوسط العمر المتوقع لدى الأشخاص الذين يعانون زيادة في الوزن، ليس أقصر من متوسط العمر المتوقع للأشخاص ذوي مؤشر كتلة الجسم BMI الطبيعي. ويعبّر هذا المؤشر عن وزن الجسم بالكيلوغرامات مقسوماً على مربع طول الجسم بالمتر. ويُعدّ الأشخاص ذوو مؤشر كتلة الجسم الأعلى من 30 بدناء، أي لديهم دهون زائدة في أجسامهم.
بالإضافة إلى ذلك، وجدت مراجعة تحليلية لما يقرب من 100 دراسة، أن زيادة الوزن تقلل على نحو طفيف خطر الوفاة، لكن عندما يبلغ مؤشر كتلة الجسم 30 أو أكثر، يزداد معدل الوفيات، لكن بنسبة بسيطة أيضاً. في المقابل، يشير مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأميركي إلى أن زيادة الوزن والبدانة تزيدان خطر الوفاة، وتقللان عمر الشخص.
لاحظت ماثور أن الكثير من هذه الأبحاث لم تميّز بين الوزن الزائد والبدانة، ووقع بعضها الآخر في مشكلات منهجية، مثل عدم القياس الدقيق لتأثير عوامل مثل النشاط البدني، والحمية الغذائية.
فمثلاً، يمكن أن تكون بديناً ولائقاً بدنياً، خاصة إذا كنت تمارس الرياضة، حيث يمكن للأشخاص البدناء الذين يمارسون التمارين الرياضية أن يخفضوا أضرار السمنة؛ إذ تسهم الرياضة في الحفاظ على كتلة العضلات والعظام، وقد تعالج مشكلات الأيض المرتبطة بالسمنة، وتقلل الدهون الحشوية، وتضبط ضغط الدم، وتخفض مقاومة الإنسولين.
إلى جانب ذلك، على الرغم من أن فقدان الوزن عند اتباع نظام غذائي بغض النظر عن ممارسة الرياضة، يقلل خطر الوفاة المبكرة لدى البالغين الذين يعانون السمنة المفرطة، فإن هذا لا ينطبق على كبار السن، فقد وجدت دراسة نشرتها دورية جاما الطبية أن فقدان كبار السن الوزن يرتبط بزيادة خطر الوفاة، بينما تشير العديد من الدراسات إلى أن السمنة تخفّض خطر الوفاة خاصة عند كبار السن، وتؤدي إلى عمر أطول.
اقرأ أيضاً: لماذا يزداد الوزن بعد سن الأربعين؟ وكيف يمكن السيطرة عليه؟
مؤشر كتلة الجسم مقياس غير دقيق للسمنة!
أثارت نتائج هذه الأبحاث جدلاً بين العلماء بسبب اعتماد باحثي هذه الدراسات في قياس السمنة على مؤشر كتلة الجسم. لكن يُعدّ هذا المقياس غير دقيق؛ فالجسم يتكون من عظام وعضلات وأنسجة أخرى، بجانب الدهون. واستناداً إلى هذا المقياس، يمكن اعتبار لاعبي كمال الأجسام بدناء، فمع أن لديهم نسبة قليلة جداً من الدهون، فإن لديهم نسبة عضلات كبيرة جداً في المقابل.
كما يمكن أن يتمتّع الشخص بمؤشر جسم طبيعي، لكنه يعاني انخفاض كتلة العضلات، وهي علامة رئيسية لمرض ضمور العضلات. وقد يعاني الشخص انخفاض كثافة العظام، ما قد يشير إلى الإصابة بهشاشة العظام، وكلاهما يزيد خطر الوفاة.
كذلك، لا يقيس مؤشر كتلة الجسم توزيع الدهون، فيمكن للأشخاص أن يتمتّعوا بمؤشر كتلة جسم طبيعي، لكن لديهم مستويات مرتفعة من الدهون في منطقة البطن، والتي تُعدّ أخطر من الدهون الموزعة في أماكن أخرى، حيث تزداد معدلات الوفاة لدى الأشخاص الذي يعانون مستويات أعلى من الدهون في البطن، حتى إن كان مؤشر كتلة الجسم لديهم طبيعي.
لذلك، حتى إن كان مؤشر كتلة الجسم معبّراً عن السمنة عند الشخص العادي، لكنه لا يعني أنه يمكن الاعتماد عليه وحده في قياس معدلات الوفيات بناءً على نسبته. فالأشخاص الذين يعانون سمنة مفرطة لكن يتمتّعون بتمثيل غذائي أو أيض صحي أكثر صحة ولياقة بدنية من الأشخاص الذين يعانون سمنة مفرطة لكن لديهم مشكلات في الأيض، وكذلك من الأشخاص النحفاء الذين يعانون اضطرابات في الأيض، حيث تزداد خطورة تعرض هؤلاء إلى أمراض التمثيل الغذائي.
ما هي مخاطر تفاقم الفجوة بين الأدلة العلمية والإرشادات العامة؟
قد يرجع شيوع الاعتقاد بأن السمنة تؤدي إلى قصر العمر إلى عوامل مثل الثقافة الشائعة، وإرشادات الصحة العامة. لذلك، تساءلت ماثور عمّا إذا كان لدى غيرها من الأطباء الاعتقاد ذاته، فتعاونت مع والدتها، الطبيبة والباحثة في الطب الحيوي، فاندانا ماثور Vandana Mathur، لإجراء مسح شمل نحو 200 طبيب رعاية أولي من مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأميركية لقياس رؤية هؤلاء الأطباء لمخاطر الوفاة المتعلقة بزيادة الوزن. وجدت الدراسة أن 90% من هؤلاء الأطباء يعتقدون أن زيادة وزن الشخص تقلل عمره، على الرغم من أن هذا غير صحيح بحسب جمعية القلب الأميركية (the American Heart Association)، والكلية الأميركية لأمراض القلب (the American College of Cardiology).
ومع تعارض الأدلة، ووجود فجوة في التواصل حتى في الأوساط العلمية والبحثية، يمكن أن يزداد تشارك المعلومات التي لا تستند إلى أدلة، ويؤدي إلى مبالغة الأطباء في تقييم المخاطر الصحية لزيادة الوزن بناءً على مؤشر كتلة الجسم، وقد يقلل من ثقة المرضى في أطبائهم عند معرفة أن الأدلة العلمية تشير إلى غير ذلك، فضلاً عن ترسخ الوصمة الاجتماعية عن البدانة.
اقرأ أيضاً: السخرية من زيادة وزن الآخرين قد تضر صحتهم
تنصح ماثور الأطباء بالرجوع إلى الأدلة العلمية الدقيقة عند إجراء محادثات مع المرضى بشأن الوزن، خاصة في ظل انتشار شعبية بعض أدوية إنقاص الوزن الجديدة مثل أوزمبيك (Ozempic). وتشير ماثور إلى أنه لا يوجد ما يثبت أن زيادة الوزن وحدها تزيد خطر الوفاة، دون الوضع في الاعتبار المؤشرات الحيوية، أو التمثيل الغذائي. وتنصح المرضى الذين يعانون زيادة الوزن بالتحقق من الرسائل المجتمعية المروج لها، وإرشادات الصحة العامة حول كون مؤشر كتلة الجسم السبب الرئيسي لمشكلة ما أو يزيد خطراً معيناً، وتحثهم على السؤال والبحث عن الأدلة التي تثبت ذلك.