يُخبرنا العلم أن مفتاح شيخوخة الدماغ يكمن في أسلوب حياتنا، حيث يمكن من خلال اختياراتنا اليومية، سواء من حيث الغذاء والأنشطة والحالة النفسية، أن نُحافظ على قوة وحيوية عقولنا ونُؤخّر شيخوخة الدماغ.
دراسة جديدة تكشف تأثير نمط الحياة في شيخوخة الدماغ
لفهم العلاقة بين نمط الحياة والجينات وتأثيرها في صحة الدماغ وتطور الأمراض التنكسية العصبية، مثل الخرف وآلزهايمر، أجرى باحثون من جامعة أوكسفورد دراسة حديثة نُشِرت في مجلة اتصالات الطبيعة (Nature Communications)، حللوا خلالها فحوصات دماغية لنحو 39,676 متطوعاً في قاعدة بيانات UK Biobank، تراوحت أعمارهم بين 44 و82 عاماً. حدد الباحثون مناطق معينة في الدماغ تُعرف بـ "مناطق الدماغ ذات الترتيب الأعلى" والتي تكون أكثر عرضة للتدهور في مرض آلزهايمر، تشمل هذه المناطق القشرة الأمامية الجبهية والقشرة الجدارية والقشرة الصدغية، وهي مناطق تؤدي دوراً مهماً في الذاكرة والتركيز والوظائف المعرفية الأخرى.
الكشف عن 161 عامل خطر للإصابة بالخَرَف
أجرى الباحثون تحليلاً شاملاً لـ 161 عامل خطر محتملاً للإصابة بالخَرَف، وحددوا تأثيرها في مناطق الدماغ الضعيفة، بالإضافة إلى التأثيرات الطبيعية للشيخوخة. ركّزت الدراسة على ما يُسمَّى بـ "عوامل الخطر القابلة للتعديل"، وهي عوامل يمكن تغييرها أو التحكم فيها طوال الحياة لتقليل خطر الإصابة بالخَرَف، وصُنِفت هذه العوامل إلى 15 فئة رئيسية تشمل جوانب مختلفة من صحة الإنسان ونمط حياته، بما في ذلك:
- العوامل الصحية: ضغط الدم، والكوليسترول، ومرض السكري، والوزن.
- عادات نمط الحياة: استهلاك الكحول، والتدخين، والنظام الغذائي، والنشاط البدني.
- العوامل النفسية والاجتماعية: المزاج الاكتئابي، والتنشئة الاجتماعية، والتعليم.
- العوامل البيئية: التلوث، والسمع، والنوم.
عوامل الخطر القابلة للتعديل على شبكة الدماغ الضعيفة
وجدت الدراسة أن بعض الجينات المرتبطة بالاستجابات المناعية والالتهابية تزيد من خطر الإصابة بأمراض الشيخوخة، وحدد الباحثون ثلاثة عوامل رئيسية في نمط الحياة تستهدف نقاط ضعف الدماغ وتسهم في تسريع شيخوخته وتدهور القدرات المعرفية:
- مرض السكري: يعتبر مرض السكري من النوع الثاني من عوامل الخطر الرئيسية للإصابة بالخرف، حيث أظهرت دراسة سابقة نشرتها مجلة أبحاث مرض السكري (Diabetes Investigation) أنه يزيد من خطر الإصابة به بنسبة تصل إلى 60%.
- ثاني أوكسيد النيتروجين (كمؤشر لتلوث الهواء): يمكن أن يؤدي التعرض لثاني أوكسيد النيتروجين، الموجود في الهواء الملوث الناتج عن حركة المرور، إلى حدوث التهاب وإجهاد تأكسدي وتلف خلايا الدماغ، ما يزيد من تعرض مناطق معينة من الدماغ للشيخوخة والأمراض التنكسية العصبية.
- استهلاك الكحول: يؤثّر استهلاك الكحول سلباً في صحة الدماغ، حيث يغيّر من بنية الدماغ ووظيفته ويزيد من خطر الإصابة بالخَرَف بنسبة تصل إلى 8%، لكن يمكن للحد من استهلاك الكحول أن يقلل من خطر هذه الإصابة بالنسبة نفسها.
تقول غوينيل دود Gwenaëlle Douaud، الأستاذة المشاركة والباحثة الرئيسية في الدراسة، إن بعض مناطق الدماغ تكون أكثر عرضة للتدهور في مرحلة الشيخوخة، وهي الأكثر تأثراً بعوامل الخطر الرئيسية الثلاثة، وأضافت أن الدراسة كشفت عن وجود علاقة بين بعض الاختلافات في الجينوم وضعف هذه المناطق بالدماغ، وترتبط هذه الاختلافات الجينية بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والفصام ومرض آلزهايمر ومرض باركنسون، بالإضافة إلى ارتباطها بمستضدات فصيلة دم نادرة تُسمَّى نظام مستضد XG، وهو اكتشاف جديد وغير المتوقع.
اقرأ أيضاً: ما هو التورين الذي بينت الدراسات أنه يطيل العمر وأين يوجد؟
مستضد XG: لغز في عالم فصائل الدم
يوجد جين خاص بهذه الفصيلة على كل من الكروموسومات الجنسية X وY، ويحدد نوعين من المستضدات: Xga وXg. وجد الباحثون أن الأفراد الذين يحملون نوعاً معيناً من مستضد XG يكونون أكثر عرضة لتأثيرات تلوث الهواء على مناطق الدماغ الهشة، ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض مثل آلزهايمر. ويثبت هذا الاكتشاف أثر الجينات على حساسية الأشخاص لعوامل الخطر البيئية، مثل تلوث الهواء، كما أنه يُسلّط الضوء على أهمية الحد من التعرض لتلوث الهواء، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يحملون مستضد XG، لحماية صحة الدماغ والوقاية من الأمراض العصبية.
أشار لويد إليوت، الأستاذ والباحث المشارك في الدراسة، إلى أن اثنين من الاكتشافات الجينية الرئيسية في الدراسة يقعان في منطقة جينية غير نمطية مشتركة بين الكروموسومات X وY، وهي منطقة غير مستكشفة جيداً حتى الآن، ويؤكد أهمية استكشاف هذه المنطقة الجينية الغامضة بشكلٍ أكبر، حيث يمكن أن يكشف البحث معلومات قيمة حول دورها في صحة الإنسان والأمراض المختلفة، ما يفتح آفاقاً واعدة لتطوير علاجات جديدة.
آفاق واعدة للحفاظ على صحة الدماغ ومواجهة الشيخوخة والأمراض التنكسية العصبية
تُسلّط نتائج الدراسة الضوء على تأثير عوامل الخطر القابلة للتعديل في صحة الدماغ وزيادة احتمالية الإصابة بالشيخوخة والأمراض التنكسية العصبية، ما يعني أنه يمكن للأفراد تغيير عاداتهم واتخاذ خيارات صحية للحد من مخاطر الإصابة بهذه الأمراض. بعكس العوامل الوراثية التي تكون عادةً غير قابلة للتعديل، لكن يمكن من خلال فهم الاستعدادات الوراثية للأفراد تطوير تدخلات مبكرة وفعّالة للوقاية من الأمراض.
فمع التقدم التكنولوجي في مجال الجينات، أصبح من الممكن تحديد الجينات المرتبطة بزيادة خطر الإصابة بأمراض معينة، هذه المعرفة تُتيح لمقدمي الرعاية الصحية والمرضى اتخاذ إجراءات وقائية مبكرة، مثل تغيير نمط الحياة أو تلقي العلاج المناسب؛ للحد من خطر الإصابة بالمرض أو إبطاء تقدمه. على سبيل المثال، يمكن للأفراد الذين يحملون مستضد XG اتخاذ إجراءات للحد من تعرضهم لتلوث الهواء، ما يقلل من خطر الإصابة بأمراض الدماغ المرتبطة بالتلوث. كما يمكن استخدام نتائج الدراسة لتطوير سياسات الصحة العامة لتعزيز الشيخوخة الصحية وتقليل عبء الأمراض التنكسية العصبية.
اقرأ أيضاً: كيف يمكنك صيانة جسمك على المستوى الخلوي لتعيش حياة طويلة؟
نصائح عملية للحفاظ على صحة الدماغ والوقاية من الخَرَف
هناك العديد من الخطوات العملية التي يمكن اتباعها للحد من هذه المخاطر والحفاظ على صحة الدماغ مع تقدم العمر:
- اتباع نظام غذائي صحي ومعزز بالألياف: فهو يساعد على تنظيم مستويات السكر في الدم والوقاية من مرض السكري من النوع الثاني، ويمكن الحصول على الألياف من مصادر متنوعة، مثل البقوليات والفواكه والخضروات والحبوب الكاملة.
- تناول المغذيات العصبية: تسهم المغذيات العصبية في تعزيز صحة الدماغ وتحسين وظائفه، ويمكن الحصول عليها من الأطعمة، مثل الأسماك الدهنية الغنية بأوميغا 3، والتوابل مثل الكركم الذي يحتوي على الكركمين أو من المكملات الغذائية مثل سيتيكولين.
- تحسين جودة الهواء: قد لا نتمكن من التحكم في جودة الهواء في الخارج، لكن يمكن تحسين جودة الهواء في المنزل باستخدام جهاز تنقية الهواء المزود بمرشحات HEPA.
- ممارسة الرياضة بانتظام: تساعد الرياضة على تحسين تدفق الدم إلى الدماغ وتحفيز نمو خلايا جديدة وتقليل خطر الإصابة بالخَرَف.
- الحفاظ على نشاط الدماغ: تسهم الأنشطة التي تحفّز الدماغ، مثل القراءة وحل الألغاز وتعلم مهارات جديدة، في الحفاظ على صحة الدماغ وتقليل خطر الإصابة بالخَرَف.
- إدارة المشكلات الصحية الموجودة: مثل ضغط الدم والكوليسترول وسكر الدم، فهذه العوامل تزيد من خطر الإصابة بالخرف.
- الحصول على قسط كافٍ من النوم: فهو ضروري لصحة الدماغ والذاكرة.
- العناية بالصحة النفسية: قلل من التوتر والقلق واحرص على الشعور بالسعادة والرضا، فالأشخاص الذين يعانون القلق أو الاكتئاب أو الحرمان من النوم أو الإنهاك أكثر عرضة للحصول على درجات سيئة في اختبارات الوظائف المعرفية.
- المحافظة على الروابط الاجتماعية: التواصل مع الآخرين يحفّز الدماغ، ويحسّن الصحة النفسية، ويقلل من خطر الإصابة بالخَرَف، ويخفّض من ضغط الدم المرتفع، ويزيد من متوسط العمر المتوقع.
- حماية الرأس من الإصابات: إصابات الرأس المتوسطة إلى الشديدة، حتى بدون تشخيص الارتجاج، تزيد من خطر الإصابة بضعف الإدراك على المدى الطويل، لذلك يجب ارتداء خوذة عند ممارسة الرياضات الخطرة أو ركوب الدراجات.
- تناول جرعة منخفضة من الأسبرين: يجب استشارة الطبيب حول إمكانية تناول جرعة منخفضة من الأسبرين، فهو قد يقلل من خطر الإصابة بالخَرَف، خاصة الخَرَف الوعائي.
- تجنُّب التدخين واستهلاك الكحول.
- إجراء فحوصات دورية: فهي تساعد على الكشف المبكر عن أي مشكلات صحية قد تؤثر في صحة الدماغ.
اقرأ أيضاً: هل تساعد مرطبات الجسم على إبطاء الشيخوخة؟
تذكر، الوقاية خيرٌ من العلاج، فابدأ اليوم باتباع هذه النصائح للحفاظ على دماغك شاباً وذاكرتك قوية لسنوات قادمة، لكن يُنصح باستشارة الطبيب المختص قبل اتخاذ أي تغييرات كبيرة في نمط حياتك أو تناول مكملات غذائية.