عندما كانت تشيلسي وود طفلة، كانت تجمع الكثير من حلزونات الونكة الرائجة في شواطئ جزيرة لونغ آيلاند الأميركية.
قالت وود: "كنت أنزعها عن الصخور وأضعها في دلاء وأحتفظ بها على أنها حيوانات أليفة ثم أحررها مجدداً، كما أنني أعرف الكثير عن هذا النوع من الحلزونات". لم تعلم وود أن تلك الحلزونات كانت تعج بالطفيليات إلّا بعد سنوات؛ إذ قالت: "يكون بعض جماعات هذه الحلزونات مصابة بالطفيليات بنسبة 100%، بينما تبلغ نسبة الطفيليات في كتلتها الحيوية 50%. يعني ذلك أن الحلزونات التي كنت أضعها في الدلاء عندما كنت طفلة لم تكن حلزونات حقاً، بل كانت [طفيليات] من صف المثقوبات استولت على أجسام الحلزونات لتحقيق غاياتها الخاصة. وأذهلني ذلك للغاية".
الطفيليات كمحرِّكة دمى
تشير وود، التي أصبحت الآن متخصصة في علم بيئة الطفيليات في جامعة واشنطن، إلى الطفيليات على أنها «محرّكة دمى» في الكثير من الأحيان، وهذا ليس وصفاً مبالغاً به في الكثير من الحالات. تستطيع بعض الطفيليات التحكم بعقل مضيفها، فعلى سبيل المثال، هذه الكائنات قادرة على جعل الفئران تبحث عن رائحة بول القطط. يمكن للبعض الآخر تغيير شكل المضيف بطريقة تجعل جسمه يبدو مثل الطعام. تُحدِث التأثيرات المتداعية لسلوك هذه الكائنات تغييراً جذرياً في مناطق طبيعية بأكملها.
اقرأ أيضاً: توثيق سلوك غريب يتبعه بعض أنواع الأسماك للتخلص من الطفيليات
نظر البشر إلى الطفيليات على أنها أعداء طبيعية على مدى قرون؛ إذ إنها تُصيب غالباً الإنسان والماشية. في الواقع، الطفيليات ضارة بمضيفيها بطبيعتها، ولكن بدأ عدد متزايد من العلماء التفكير في الطفيليات على أنها مفيدة للبيئة. قالت وود: "لا أعتقد أن أي أحد لديه رغبة فطرية بأن يصبح عالم طفيليات، ودراسة الديدان ليست حلم أي طفل. لكن هذه الكائنات أثارت اهتمامي في مرحلة ما من حياتي، وأصبحتُ مولعة فيها. لا أصدق أنني وصلت إلى هذه المرحلة في دراستي لعلم الأحياء دون أن يذكر لي أحد أن الطفيليات تتمتع بتنوع بيولوجي هائل وأنها واسعة الانتشار وتعيش في كل مكان".
الطفيليات جزء أساسي من الطبيعة
في صباح يوم غائم في شهر أغسطس/آب، اصطحبتني وود إلى شاطئ تيتلو في ولاية واشنطن الأميركية ، وهو أحد مواقع الأبحاث التي يجريها فريقها. جمع أحد مرشدي وود البحثيين عينات لسرطانات البحر في هذا الشاطئ في ستينيات القرن الماضي. كانت المنطقة في ذلك الوقت تعج بالمنشآت الصناعية وملوثة للغاية. لكن الشاطئ كان قد تغير جذرياً عندما عاد الباحثون، ومنهم وود، لجمع العينات بعد نصف قرن من الزمن. كانت المياه أنظف، كما أن الطيور الشاطئية عادت، لكن لم تكن هذه هي العلامات الواعدة الوحيدة؛ إذ أصبحت السرطانات حينها مليئة بديدان المثقوبات، وهو صف من الطفيليات التي تتطفل على السرطانات والطيور.
وفقاً لوود، يشير وجود الطفيليات إلى أن الطيور الشاطئية المحلية كانت في حالة جيدة. مع تعلّم العلماء المزيد عن الطفيليات، جادل البعض بأن هذه الكائنات قد تكون ضرورية فعلاً لازدهار العديد من الأنظمة البيئية. قالت وود: "الطفيليات هي مؤشر دقيق؛ أي أنه إذا كانت موجودة، يمكن أن نستنتج أن الكائنات المضيفة موجودة أيضاً. على هذا النحو، تمنحنا الطفيليات مؤشرات عن صحة النظام البيئي". لفهم هذه الفكرة غير البديهية، يجب أن ندرس فئة أخرى من الحيوانات التي اعتاد البشر على كرهها، وهي المفترسات. اعتاد العديد من المجتمعات عبر سنوات على التعامل مع المفترسات على أنها آفات من نوع ما؛ إذ شُجّع الصيادون على قتل الذئاب والدببة وذئاب القيّوط وأسود الجبال لحماية أنفسهم وممتلكاتهم. لكن بدأ البشر يلاحظون بعض العواقب الوخيمة لهذه الممارسات في نهاية المطاف. لا يوجد مثال على ذلك أنسب مما حدث في متنزه يلوستون الوطني.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يضر التشجير الاصطناعي بالبيئة؟
قضى البشر على الذئاب الرمادية على نحو منهجي في هذا المتنزه في عشرينيات القرن العشرين. لكن بمجرد القضاء على جماعات الذئاب هذه، بدأت أعداد الأيائل بالازدياد دون رادع. في نهاية المطاف، أصبحت القطعان ترعى على نحو مفرط بالقرب من الجداول والأنهار، ما أدّى إلى طرد الحيوانات مثل القنادس المحلية. اختفت البرك وانخفض منسوب المياه الجوفية في مناطق التشبّع بسبب غياب القنادس التي كانت تبني السدود. وبعد زمن قصير، تغيّرت تضاريس المنطقة بالكامل.
الدور البيئي للطفيليات
غيرت إدارة متنزه يلوستون سياستها في تسعينيات القرن العشرين وأدخلت الذئاب الرمادية إلى المتنزه مجدداً. قالت وود: "أحدثت هذه الذئاب تغييراً إيجابياً كبيراً بعد عودتها إلى المنتزه". أصبحت هذه الحادثة من الحكايات الرمزية الأساسية في مجال علم البيئة. المفترسات ليست مجرد قتلة، بل إنها تؤدي دوراً يحفظ أنظمة بيئية بأكملها. قالت وود: "أعتقد أن هناك الكثير من أوجه التشابه بين الدور البيئي للمفترسات والدور البيئي للطفيليات". كما هي حال الذئاب الرمادية في متنزه يلوستون، بدأ العلماء مؤخراً باكتشاف الطرق العميقة التي تؤثّر وفقها الطفيليات في الأنظمة البيئية.
خذ العلاقة بين الديدان الشعرية، وهي نوع من الديدان الطفيلية، وجودة مياه الجداول مثالاً. تولد هذه الديدان في الماء، ولكنها تقضي حياتها على اليابسة داخل العناكب أو الحشرات مثل الصراصير. تعود الديدان الشعرية إلى الماء لتتكاثر في نهاية حياتها. وبدلاً من خوض هذه الرحلة الخطيرة بنفسها، تخدع هذه الديدان الحشرات المضيفة المصابة لنقلها من خلال تحفيز "دافع مائي" لديها، وهو دافع يجعلها تغمس نفسها في الماء. تتحرك هذه الحشرات عندها تجاه حافة المجرى المائي وتفكّر في القفز في الماء قليلاً ثم تقفز، ما يؤدي إلى موتها ولكن إلى منفعة الطفيلي. لا تنتهي القصة هنا؛ إذ إن النظام البيئي للجداول بأكمله يعتمد على الديدان التي تحاول الوصول إلى الماء بمساعدة كائنات أخرى. تتغذّى الأسماك على الحشرات التي ترمي نفسها في الماء.
في الواقع، تمثّل هذه الحشرات المصابة 60% من النظام الغذائي لأحد أنواع أسماك السلمون المرقّط المهددة بالانقراض. قالت وود: "يعني ذلك أن الديدان الطفيلية هي المسؤولة عن حصول هذه الأسماك المهددة بالانقراض على الغذاء". تزدهر الحشرات المحلية في المجرى المائي وتأكل المزيد من الطحالب لأن الأسماك الجائعة تتغذّى على نحو رئيسي على الحشرات المصابة، ما يؤدي إلى تنقية مياه الجداول. تمثّل الطفيليات ما يُقدّر بنسبة 40% من المملكة الحيوانية. مع ذلك، ليس لدى العلماء أي معلومات تقريباً عن الملايين من أنواع الطفيليات حول العالم. الطفيليات الرئيسية التي درسها العلماء طويلاً هي تلك التي تُصيب حيوانات المزارع والحيوانات الأليفة والبشر.
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف الآليات والجينات وراء قدرة بعض أنواع الفطور على افتراس الديدان
من المتوقع أن تزداد أعداد العديد من هذه الطفيليات المثيرة للقلق بسبب التغير المناخي، مثل القرادات أو الفطريات الطفيلية التي تتسبب بحمى الوادي. لكن العلماء لا يعرفون كيف سيؤثّر التغيّر المناخي في الطفيليات عموماً، كما أنهم يجهلون كيف سيؤثّر أي تغيير كبير يطرأ على الطفيليات في العالم. قالت وود: "يعتقد الكثيرون أن حالات العدوى الناجمة عن الطفيليات والكائنات المعدية الأخرى في ازدياد، وأن هذه الكائنات أكثر شيوعاً مما كانت عليه من قبل. لا توجد بيانات طويلة الأجل تبين إن كان هذا الاعتقاد يعكس الواقع فعلاً أم لا، على الأقل بالنسبة للطفيليات التي تُصيب أنواع الحياة البرية. وكان علينا ابتكار طريقة ما لجمع هذه البيانات". اقترحت وود فكرة غير تقليدية للبحث عن هذه البيانات في نوع من الحيوانات، وهي مجموعة من الأسماك المحفوظة المخزّنة في قبو متحف.
تضم مجموعات أسماك جامعة واشنطن أكثر من 12 مليون عينة من الأسماك المحفوظة التي تعود إلى القرن التاسع عشر. لكن الأواني التي يصل عددها إلى الآلاف والموضوعة على الرفوف في هذه المجموعة تحتوي أيضاً على مكون آخر، وهو الطفيليات التي تعيش داخل عينات الأسماك.
جمع المعلومات عن الطفيليات
قالت وود: "اكتشف العلماء الكثير بفحص عينات المتاحف التي خُبئت بعيداً عن الأنظار ثم دُرست مجدداً بعد زمن طويل. تشريح سمكة مخزّنة منذ قرن من الزمن هو بمثابة السفر بالزمن للماضي، وهو شعور رائع. هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكّننا من جمع المعلومات عن حالة الطفيليات في المحيطات منذ زمن بعيد". أمضت وود وفريقها أكثر من عامين في فتح هذه الأواني وتشريح الطفيليات داخل الأسماك جراحياً. حدد الباحثون أنواع الطفيليات وأحصوا عددها باستخدام المجاهر، ثم خزّنوا الأسماك مجدداً لدراستها في المستقبل.
عثر هؤلاء على أكثر من 17 ألف طفيلي في النهاية. عثر الباحثون في أثناء فحص الطفيليات التي عاشت في الأسماك على مر الزمن على أنواع ناجحة تطورياً وأخرى غير ناجحة، ولكن كان هناك صف كبير من الطفيليات التي تراجعت أعدادها على نحو لا لبس فيه، وهي الطفيليات المعقدة التي تحتاج إلى غزو عدة أنواع مختلفة من المضيفين لتبقى على قيد الحياة. اكتشف الفريق أن أعداد هذه الطفيليات تنخفض بمعدل 10% كل عقد من الزمن. اكتشفت وود في أثناء البحث عاملاً واحداً فقط يفسّر تماماً انخفاض أعداد الطفيليات، وهذا العامل لا يتعلق بالمواد الكيميائية أو الصيد الجائر للأسماك، بل هو التغيّر المناخي، وهذا منطقي للغاية.
اقرأ أيضاً: كيف يتسبب التغيّر المناخي بانتشار الفطريات الخطيرة على صحة البشر؟
لا تستطيع الطفيليات المعقّدة البقاء على قيد الحياة إلّا بوجود الأنواع المضيفة التي تغزوها جميعها. وتقول وود إنه بغياب نوع واحد فقط من هذه الأنواع المضيفة، "ستموت الطفيليات بلا شك، ولهذا نعتقد أن هذه الطفيليات ذات دورة الحياة المعقدة معرضة للخطر للغاية لأن الظروف تتغير، وكلما زاد عدد حالات فشل النوع، زاد احتمال زواله". وفقاً لوود، لم يكن لدى الباحثين أي فكرة عن أن التغيّر المناخي يقضي على هذا الصف المهم من الطفيليات قبل الدراسة التي أجرتها؛ إذ قالت: "من المرجّح أن هذا التأثير جانبي. نحن لا نعرف حتى عدد الطفيليات في العالم اليوم، فضلاً عن تحديد مقدار تراجع التنوع البيولوجي لهذه الكائنات.
لكن المؤشرات الأولية تُبيّن أن الطفيليات معرضة لخطر يساوي ذلك الذي تتعرض له الكائنات المضيفة لها على الأقل، وربما تكون أكثر عرضة للخطر". وفقاً لوود، من الضروري أن يفهم البشر أن الطفيليات تؤدي أدواراً كبيرة ومعقدة في الطبيعة، وإذا تجاهلنا الكائنات التي لا نستطيع رؤيتها، سنزيد احتمال فشلنا في فهم العالم بدقة. قالت وود: "لدينا جميعاً نفور انعكاسي من الطفيليات، أليس كذلك؟ نحن نتناول الأدوية ونستخدم المواد الكيميائية ونرش النباتات لحماية أنفسنا منها. لكن ما نجادل به هو أن الطفيليات مجرد أنواع من الكائنات الحية، وأنها تمثّل جزءاً من التنوع البيولوجي وتؤدي أدواراً ضرورية للغاية في الأنظمة البيئية نعتمد عليها".